صمت ثقيل يخيم على الشارع المؤدي إلى “مقبرة الشهداء” بوجدة. صمت لا تقطعه سوى تلاوة القرآن التي تنطلق من مكبر الصوت بسيارة الإسعاف. الدهشة على وجوه الموكب يكاد يراها العابرون من الشارع. الساعة تقارب منتصف النهار، والمودعون يسيرون خلف سيارة نقل الموتى بخطى بطيئة نحو المقبرة.

السيارة تصل بعد ربع ساعة إلى مكان الدفن. ستة أشخاص يتعاونون على حمل الجثة الملفوفة في الكفن الأبيض إلى القبر، الذي توجد أمامه لافتة حجرية مكتوب عليها اسم “عبد الرحمان عيسى”. هذا المهاجر السوداني، الذي لا يتعدى عمره 26 سنة، كان “يراوغ” الموت طيلة رحلة الهجرة الشاقة قبل أن تبتلعه رمال الصحراء الحدودية بين المغرب والجزائر.

عيسى لم تمض على وجوده بوجدة سوى أيام قليلة، كانت كفيلة بتأزيم وضعيته الصحية بعد رحلته الطويلة من السودان إلى ليبيا، ومنها إلى الجزائر، وبعدها المغرب. المغامر السوداني لم يستطع إكمال الرحلة إلى أوروبا بسبب إصابته بمرض “التهاب السحايا”، لتنتهي بذلك “رحلة الموت” بالموت في نهاية المطاف.

كم من الجثث مدفونة هنا بالمغرب؟ وما قصتها؟ وكيف يصل المهاجرون السودانيون إلى المغرب؟ وما الدور الذي تلعبه مواقع التواصل الاجتماعي في تسهيل “رحلات الموت”؟ وهل ما زالت أفواج السودانيين الفارين من “جحيم ليبيا” تصل إلى المغرب بعد أحداث مليلية العنيفة؟ وإلى أي حد تشكل تلك الأفواج خطرا أمنيا على البلاد؟ أسئلة وأخرى نجيب عنها في هذا التحقيق الاستقصائي الذي يتتبع خيوط الهجرة من السودان إلى مليلية.

الموت ينتزع أصدقاء السفر

خلف “باب الغربي” للمدينة العتيقة بوجدة، وقف يراقبنا من بعيد، ويتأمل تحركاتنا. كنا في طريقنا إلى الحي الخلفي من أجل البحث عن المهاجرين السودانيين. عيونه ظلت ترصدنا حتى اقتربنا من أزقة متربة ومحفرة، تقود مباشرة إلى بيت غير مسقوف من الكرتون.

“هل أنتم من البوليس؟”، يخاطبنا المهدي تومر عادل بسحنته الشاحبة وعينيه الغائرتين، ويضيف بنرفزة: “لم نشارك في أحداث مليلية، ونقطن هنا بصفة مؤقتة فقط”. بكل تأكيد، أعين السلطة تمر بهذه الأزقة، وتتسرب إلى البنايات المسكونة والمهجورة.

 

التقطنا الإشارة، وأجبناه بأنه لا علاقة لنا بالشرطة. ملامح وجهه المكفهر سرعان ما تبدلت، وقابلنا بابتسامة عريضة. المهدي تومر عادل، المنحدر من دارفور، ما يزال يعاني من عدة كسور بجسمه النحيف بعد تعرضه لتعذيب شديد من طرف عصابتين ليبيتين شاركتا في اختطافه وبيعه في سوق النخاسة. أثناء لقائنا به في مأوى السودانيين بالمدينة العتيقة، يتذكر المهدي، وهو يفترش حصيرا باهت الصفرة، العديد من مشاهد التعذيب القاسي في ليبيا.

يحكي لنا تومر عادل، الذي دخل مدينة وجدة منذ خمسة أشهر، خواطره الحزينة عن رحلة الهجرة الأليمة بالقول: “أوصلتنا عربة رباعية الدفع إلى مدينة الطينة التشادية، ومنها انتقلنا إلى مدينة أبشي، ثم توجهنا إلى قرية كالعيد، لكن تم بيعنا إلى عصابة تشادية وضعتنا في منزل طيني وسط صحراء قاحلة، يدعى التركينة، وتركتنا في الخلاء الموحش بدون طعام ولا ماء”.

ويتابع المتحدث بحسرة: “كنا 10 أصدقاء، لكن بعد فترة قصيرة فارق ثلاثة أشخاص الحياة”. يتوقف قليلا، ثم يتمالك مشاعره اليائسة ويقول: “اشتد بنا الظمأ، وبدأ الموت يحل علينا. وبحلول اليوم السادس، وصل عدد الموتى إلى سبعة أشخاص، وبقينا ثلاثة أشخاص على قيد الحياة لكن في أنفاسنا الأخيرة، وكنا نستعد لفراق الحياة، قبل أن يعود رئيس العصابة إلى المنزل، ويقرر بيعنا لعصابة ليبية أخرى قامت بترحيلنا إلى مدينة بنغازي، وتبعتها طرابلس”.

تلك الانتهاكات الإنسانية يصفها مالك الديجاوي، رئيس برنامج الهجرة غير الشرعية بليبيا، بـ”الأليمة والعسيرة”. ويرى، في حديث لهسبريس، أنها لن “تنتهي سوى بدفع مبالغ مالية قد تصل للشخص الواحد إلى 15 ألف دولار”، مشددا على أن “عصابات الاتجار بالبشر لديها تنسيق مشترك بين دول عبور المهاجرين، وهي السودان وليبيا والجزائر والمغرب”.

الهلاك “أون لاين” باليورو

هجرة الشباب السودانيين لم تعد تبدأ من “قوارب الموت”، بل أصبحت تنطلق من مواقع التواصل الاجتماعي، التي تسهل مسارات الهجرة غير النظامية من “القارة السمراء” باتجاه القارة العجوز”. خلال الدردشات التي أجريناها مع مجموعات مختلفة من المهاجرين، وقفنا عند “التنظيم الافتراضي” المحكم لمسألة الهجرة من السودان نحو المغرب.

بعد تواصل دام لنحو شهر مع مهاجر سوداني بالعاصمة الرباط، نجحنا في الانضمام إلى مجموعة داخلية سرية بموقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، تضم أزيد من 5000 سوداني، أغلبهم يقطنون بـ”بلاد النيلين”، ويرغبون في الوصول إلى المغرب، ومنه المغادرة نحو البلاد الأوروبية.

أثناء تصفحنا للمنشورات بالمجموعة السرية، الحاملة لاسم “جنقو سبتة ومليلية”، وجدنا الكثير من الحسابات الوهمية المشتركة التي تنشط بكل من السودان وليبيا والجزائر والمغرب وأوروبا. تتبعنا منشورات تلك الحسابات المشتركة لمدة تزيد عن أسبوع، لنكتشف أنها عبارة عن شبكة إجرامية منظمة للغاية.

“السلام عليكم. لو مشيت إلى الجزائر، الدخول كيف من المغرب؟”، هكذا تساءل أحد أعضاء تلك المجموعة عن كيفية دخول الأراضي المغربية عبر بوابة الجزائر (منشور يعود إلى 24 ماي 2022)؛ أي قبل “أحداث مليلية” بشهر واحد. لم تمض سوى نصف ساعة على “التدوينة” حتى أجاب حساب افتراضي، يحمل اسم “Zool Sudani”، بأنه يتوفر على قائمة المهربين الذين سيساعدون السائل على الوصول إلى المغرب انطلاقا من الجزائر، ثم دعاه إلى التواصل على الخاص.

وفي منشور آخر، بتاريخ 28 ماي 2022، عاد الحساب الافتراضي عينه ليخط “تدوينة” جديدة بتلك المجموعة السودانية الداخلية، يكشف فيها طريقة الفرار من الجزائر باتجاه المغرب. المسار الأول يكون من مدينة غدامس الليبية باتجاه مدينة دبداب الجزائرية مقابل 120 يورو، وبعدها نحو ورقلة بـ90 يورو، ثم إلى الجزائر العاصمة بـ70 يورو، فوهران التي يمكن خلالها ركوب سيارة الأجرة صوب مغنية بيورو واحد فقط، ليتم بلوغ “جبل زوي” المؤدي إلى المغرب.

أما المسار الثاني، بحسب المنشور ذاته، فينطلق من مدينة دبداب الحدودية، ويمر بورقلة، ويعبر تمنراست، فالعاصمة الجزائرية، ثم وهران حيث تتم تأدية مبالغ مالية مهمة لأحد أعضاء شبكة التهريب (200 يورو)، ليتكلف بنقل أفواج المهاجرين غير النظاميين نحو المنطقة الحدودية بين الجزائر والمغرب. كما يقوم بإيوائهم في مزرعة سرية في انتظار مساعدتهم على التسلل إلى التراب المغربي مقابل مبالغ مالية متفاوتة.

خفر السواحل لا ينقذ.. لكنه يدفن

من داخل البيت الصفيحي بوجدة الذي يتجمع فيه مهاجرو المدينة، التقينا محمد آدم محمد الذي فر من الحرب الأهلية بالخرطوم. السودان بالنسبة إلى آدم محمد أصبح بلدا من الماضي. وعن ذلك، يقول: “عدت ذات يوم إلى المنزل، فوجدته ممتلئا بالجثث”. ويضيف بصوت خفيض: “الحرب قتلت أسرتي، والجماعات المسلحة أحرقت ممتلكاتي”.

كمال حذيفة وديدي، خبير سوداني في قضايا الهجرة مقيم بالخرطوم، صرح لجريدة هسبريس الإلكترونية بأن “تزايد وتيرة العنف السياسي في البلد أجبر آلاف السودانيين على الرحيل نحو ليبيا من أجل الوصول إلى أوروبا، لكن سيطرة الميليشيات على المناطق الليبية دفع المهاجرين إلى الفرار صوب الجزائر والمغرب”.

الحرب الأهلية دفعت بمحمد آدم محمد إلى خوض “رحلة الفرصة الأخيرة” من أجل تحقيق الحلم الأوروبي. السفر بدأ من مدينة الجنينة بغرب دارفور، حيث نقلته عصابة المهربين بواسطة سيارة “لاند كروزر” إلى مجموعة من المدن التشادية حتى بلغ الحدود الليبية، ومنها تحرك صوب مدينة أجدابيا، فبنغازي، ثم العزيزية، وتلتها طرابلس. وفي جميع مراحل التهريب، كان يدفع مبالغ مالية مختلفة للعصابة من أجل الانتقال من منطقة إلى أخرى.

وعندما بلغ طرابلس، حاول آدم محمد الهجرة ليلا إلى إيطاليا، لكن خفر السواحل الليبي قبض عليه. ويحكي المغامر السوداني تفاصيل القصة قائلا: “ظننت أن خفر السواحل سينقذني، لكنه كاد يدفنني، بعدما طالبني بأداء فدية مالية مقابل الإفراج عني”. ويستطرد شارحا: “ليبيا كلها ميليشيات؛ فهذه المنظمة كانت تضربني بالعصا الكهربائية أثناء الاحتجاز، وتمنحني وجبة معكرونة مخلوطة بالمياه المالحة فقط”، ليختم بأن “التعذيب لم يتوقف حتى دفعت أسرتي الفدية”.

ويواصل روايته: “قررت عبور الجزائر هربا من الجحيم الليبي فقط، حيث اتصلت بأحد أفراد العصابة التي قامت بتهريبي إلى ليبيا، واتفقت معه على دفع 320 يورو لإيصالي إلى المغرب. الرحلة انطلقت من مدينة دبداب، ومرت بتمنراست، فالجزائر العاصمة، ثم وهران، لتنتهي بالحدود مع المغرب، حيث دخلت البلد عن طريق جرادة”.

هذه المسالك الجديدة في هجرة السودانيين نحو أوروبا ترجعها أميرة أحمد محمد، خبيرة سودانية في الهجرة أستاذة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، إلى “هيمنة الميليشيات العسكرية على المناطق الليبية، وسيطرة الجيش المصري على معبر سيناء”، لافتة إلى أن “الطرق القديمة للهجرة غير النظامية أصبحت معدومة بدءا من 2016، ولم يعد هناك طريق آخر للوصول إلى أوروبا سوى المغرب”.

موسم الهجرة من الجزائر إلى المغرب

رحلات شاقة وطويلة من أجل بلوغ مدينة وجدة التي تتكدس على غاباتها الحدودية طوابير من المهاجرين السودانيين الفارين من جحيم ليبيا. “سيدي معافة” هي إحدى الغابات الحدودية التي يتمركز فيها الشباب السودانيون بعد دخول المغرب. بهذه الغابة، التقينا محمد عبد الباسط زكرياء الذي لم يمض على دخوله التراب المغربي سوى بضعة أيام فقط.

ملابس رثة، أقدام عارية، أياد خشنة، جسد نحيل… هذا هو حال المهاجر محمد عبد الباسط الذي يعيش بضواحي غابة “سيدي معافة” بعد “رحلة الموت” التي استغرقت منه سنتين، انطلاقا من السودان نحو ليبيا، ثم تواصلت إلى الجزائر بعد قضاء أربعة أشهر في الصحراء الكبرى، لتنتهي بوجدة بعد شهر واحد من المسير صوب المغرب.

“أتيت مضطرا إلى المغرب بعد استفحال ظروف الاختطاف بليبيا”، يقول لنا عبد الباسط، الذي يستطرد بأنه كاد يموت في “سجن أبو سليم” بطرابلس، قبل أن ينجح في الفرار نحو الحدود الجزائرية. وبالنسبة إلى يوسف شملال، فاعل حقوقي مهتم بقضايا الهجرة في وجدة، فإن “بلدان المنطقة تتعامل بمنطق أمني صرف مع هؤلاء المهاجرين، بما يشمل المنظمات الحقوقية الدولية، ما يزيد من تأزيم أوضاعهم الاجتماعية”.

تدفق أفواج المهاجرين السودانيين على “عاصمة الشرق” ليس وليد اللحظة، وإنما يعود إلى سنة 2021، حسب إفادة حسن عماري، رئيس جمعية مساعدة المهاجرين في وضعية صعبة بوجدة، الذي أشار إلى أن “الوفد الأولي كان عدده يتعدى 300 مهاجر غير نظامي”.

وأكد عماري، أن “شساعة الحدود الشرقية بين الجزائر والمغرب تفاقم أعداد المهاجرين الفارين من الجحيم الليبي”، ليلفت إلى أن “الحدود تمتد من السعيدية إلى غاية فكيك؛ أي إنها تشمل أزيد من 500 كيلومتر، لكن ممرات العبور تمتد على 51 كيلومترا، من تيولي بجرادة إلى نواحي السعيدية”.

“مهاجرو وجدة” يغرقون في العتمة

عند عودتنا في مساء اليوم الموالي إلى مأوى الشباب السودانيين بالمدينة العتيقة لوجدة، وجدنا المهاجر المهدي تومر عادل (26 سنة) يتناول شطيرة صغيرة بشراهة. مكان الإقامة يراه “غير إنساني” بخلاف ما كان يتصوره عن المغرب. وعن ذلك، يقول لنا بينما ينظر إلينا أصدقاؤه بارتياب: “أقضي حاجتي الطبيعية في الخلاء، ولا أستحم، ولا أجد مكانا للنوم”.

وخلال الدردشة التي أجريناها مع هؤلاء المهاجرين بالمدينة العتيقة، نصحنا أحد أعوان السلطة المحلية بأخذ “مسافة الأمان” معهم، بالنظر إلى تسجيل حالة إصابة بفيروس “كورونا” المستجد لدى مهاجر غير نظامي قبل حلولنا بوجدة. من هناك، توجهنا إلى قنطرة “وادي الناشف” التي تنام أسفلها مجموعة من السودانيين. الظروف هنا غير صحية أيضا بسبب تجمع المياه العادمة.

بعدها، قصدنا الكنيسة الكاثوليكية التي تستقبل المهاجرين السودانيين بوجدة، حيث يتم الاعتناء بشريحة واسعة من الشباب الفارين من جحيم ليبيا. التصوير ممنوع هنا، لكن الكنيسة سمحت لنا بإجراء جولة تفقدية سريعة. المرفق يوفر للسودانيين خدمات المأكل والمشرب والمبيت طيلة أيام معدودات، من أجل السماح للأفواج الأخرى بالاستفادة من خدماته الاجتماعية.

في صباح اليوم التالي، انطلقنا نحو مدينة الناظور التي وجدناها شبه فارغة من السودانيين بعد “مأساة مليلية”. الوضع هادئ بعد أسابيع من الحادث، لكنه ما زال “مضطربا” بالنسبة إلى عبد الرحمان محمود الذي التقيناه بجانب غابة “كوروكو”. الاضطراب هنا يعني به محمود طبيعة الأوضاع الاجتماعية التي ما زال يعيشها رفقة زملائه.

“فرص الشغل غائبة بالمدينة”، يقول محمود الذي انتقد “عدم تدخل” مكتب مفوضية اللاجئين في المغرب من أجل تسوية أوضاع السودانيين، ويضيف: “تمنح لنا المفوضية ورقة لجوء لا يعترف بها حتى عناصر الأمن في بعض الأحيان”.

المغامرون يزحفون نحو الناظور

المغرب لن يتحول إلى بلد إقامة؛ يجمع على هذا الطرح الكثير من الشباب السودانيين المختبئين في غابات “جبل كوروكو” بالناظور، في انتظار تسلق أسوار مليلية. تبعا لذلك، أصبح المغرب بوابة عبور جديدة للمهاجرين غير النظاميين، بتعبير محمد حسونة، سوداني مقيم بطريقة قانونية في الرباط، الذي شدد على أن “أغلب السودانيين كانوا يعتقدون أن المغرب يشبه الدول الأوروبية، لكنهم لم يتوقعوا حجم المآسي الإنسانية التي قد يواجهها المهاجر غير القانوني”.

وخلال إعداد هذا التحقيق، اتضح لنا أن المهاجرين السودانيين تدفقوا بشكل كبير على مدينة الناظور في أوائل سنة 2022. واقع يؤكده عمر شريق، الكاتب العام لـ”جمعية ثسغناس للثقافة والتنمية” في حديثه ، بقوله إن “السودانيين كانوا يتمركزون بوجدة في البداية، قبل انتقالهم إلى غابة كوروكو بالناظور من أجل عبور مليلية”، لافتا إلى أن “95 في المائة منهم رجال، تتراوح أعمارهم بين 17 و35 سنة”.

وفي طريق عودتنا إلى “غابة كوروكو”، التقينا بالسوداني عبد الرحمان محمود الذي يعيش بهذه الغابة. هذا المهاجر ما يزال متمسكا بالمغادرة صوب أوروبا رغم ما وقع لأصدقائه بمليلية منذ أسابيع. وعن ذلك، يقول: “لا يمكنني التخلي عن حلمي؛ فقد مات أصدقائي لبلوغ البلد الذي أوجد فيه حاليا، وسأواصل الرحلة حتى لو كان الثمن حياتي”، ثم يضيف بكل هدوء: “في هذه الرحلة، بكيت حتى انتهت دموعي، والموت لم يعد يخيفني”.

هذه التصريحات الصادمة يعتبرها عمر الناجي، عضو الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بالناظور، “كارثة إنسانية” في عالم اليوم. ويعلق على ذلك بالقول: “الحياة أصبحت رخيصة بالنسبة إليهم، والمغرب يتحمل جزءا من المسؤولية بوصفه منطقة جديدة للعبور”. ويشرح رأيه بالقول: “مثلا في الناظور، منعت السلطات كراء المنازل لطالبي اللجوء السودانيين، ما دفعهم إلى العيش داخل الغابات؛ الأمر الذي يفاقم مآسيهم الإنسانية”.

الهجرة إلى أوروبا ليست حلما خاصا بعبد الرحمان محمود فقط، بل هي حلم مشترك بين أغلب السودانيين الذين التقيناهم أيضا بوجدة. ويأتي في مقدمتهم محمد آدم محمد الفار من شمال دارفور، والطامح إلى بلوغ المملكة الإيبيرية. “لم أندم على قرار الهجرة، وسأضحي بحياتي لتحقيق حلمي”، يقول محمد آدم لما سألناه عن موقفه الحالي من الهجرة. الأمر نفسه يؤكده لنا مهدي تومر عادل بقوله: “لن أرجع إلى السودان، ولن أبقى في المغرب. الهدف واضح، لكن الأفق مجهول”.

لا بد أن تنتهي الرحلة يوما

رمال صحارى ليبيا والجزائر لم تبتلع آمال السودانيين قبل الوصول إلى المغرب، غير أنها ابتلعت حلم الفردوس الأوروبي لدى بعض المغامرين الذين اختاروا الإقامة بمدن المملكة. محمد عبد الباسط، الذي التقيناه بغابة “سيدي معافة” بوجدة، يأمل البقاء بهذه المدينة الحدودية في حال تمت تسوية وضعيته القانونية.

ويتحدث لنا عبد الباسط عن دوافع اتخاذ هذا القرار بقوله: “سئمت من الهجرة. عانيت كثيرا أثناء الرحلة، افترقت عن عائلتي، وفقدت صديقي العزيز، وتعرضت للتعذيب من طرف ميليشيات ليبيا”. ويزيد متسائلا: “هل سأبقى هكذا طيلة حياتي؟”، ثم يجيب نفسه في لحظة مكاشفة: “طبعا لا، لكن شريطة إدماجي في المجتمع المغربي”.

“التسوية القانونية لأوضاع السودانيين شرط أساسي لكي يتحول المغرب من بلد عبور إلى بلد استقرار”، هكذا يلخص عمر شريق، الكاتب العام لـ”جمعية ثسغناس للثقافة والتنمية”، تصوره إزاء ملف الهجرة، ويرى أن “التسوية القانونية تتيح فرص الشغل للمهاجرين، وتضمن حقوق الأطفال”، مؤكدا أن “العدد الهائل للمهاجرين غير النظاميين بات يستدعي تنظيم حملة ثانية لتسوية أوضاعهم الإدارية”.

“الكرم، الطيبة، الإنسانية”؛ كلمات مفتاح ترددت على لسان المهاجر السوداني فيصل عبد النعيم، المقيم بمدينة الدار البيضاء، لتفسير أسباب رغبته بالاستقرار في المغرب. عند جنبات محطة “أولاد زيان” الطرقية، وجدنا عبد النعيم يلعب الورق مع أصدقائه، بينما يتصايح “الكورتية” ويصرخون أمام البوابة لجلب المسافرين.

كالعادة، الحذر يشوب علاقة السودانيين بالغرباء. لكن بعد تبادل أطراف الحديث حول التحقيق، وإطلاع عبد النعيم على المعطيات التي استقيناها من أصحابه بوجدة والناظور، نلنا ثقته، وأخبرنا بأنه يريد البقاء بالعاصمة الاقتصادية، عكس أصدقائه الآخرين. والسبب يعود إلى حصوله على فرصة عمل دائمة (تنظيف السيارات). وعن ذلك، يقول: “يتعامل معي رب العمل بكل لطف، وأبحث عن غرفة للكراء، وقد أتزوج من مغربية في المستقبل”.

الصحاري تبتلع الآمال والأحلام

قرار الاستقرار بالمغرب من عدمه ما يزال غير واضح بالنسبة إلى مجتبى سليمان الذي التقيناه بـ”حي التقدم” في الرباط. الحيرة تتملك الشاب السوداني الذي أصبح مترددا بين البقاء والمغادرة. ومع ذلك، فهو لا يتخوف من مواصلة مشوار الرحلة، لأنه نجا من الموت المحقق في خمس محاولات للهجرة بليبيا والجزائر.

التواصل مع مجتبى كان سلسا بالمقارنة مع التجارب السابقة بوجدة والناظور والدار البيضاء. اللقاء بيننا كان بمقهى شعبي بـ”حي التقدم” بضواحي الرباط. قصة هذا المهاجر تختلف عن البقية، فقد غادر الخرطوم قسرا بسبب مواقفه السياسية المناهضة للحكومة السودانية، وهو ما عبر عنه بالقول: “إذا دخلت السودان، سيكون مصيري السجن”.

لغته التواصلية أنيقة، وفكره السياسي بديع؛ انطباع أولي تكرس لدينا أثناء المحادثة. وبالفعل، يصرح لنا مجتبى بأنه حاصل على إجازة جامعية في العلوم السياسية من الخرطوم. السودان أجبره على الهجرة، وميليشيات ليبيا لفظته إلى الجزائر، وسلطات المرادية طردته إلى المغرب، فاستقر بالرباط. هنا، لم يطارده أحد على الأقل، لكنه ما يزال مترددا بين اختيار الاستقرار أو المغادرة.

حيرة الشباب السودانيين بين البقاء والمغادرة، زادت من هشاشة أحوالهم الإنسانية في المغرب الذي يقنن أوضاع المهاجرين غير النظاميين بشروط. لذلك، يطالب عمر الناجي، عضو الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بالناظور، بـ”تنظيم حملة أخرى لتسوية الوضعية القانونية لطالبي اللجوء السودانيين، لكن شريطة أن تكون التسوية كاملة، لكي تظفر هذه الفئة بأوراق الإقامة التي تتيح لها العيش الكريم”، مؤكدا أن “عدد المهاجرين لا يتعدى 150 ألفا بصفة عامة”.

“أحداث مليلية”.. الرواية الأخرى

تعقيدات الإدماج دفعت الدولة المغربية إلى التريث في تسوية الوضعية القانونية للمهاجرين، بما يشمل السودانيين. مصدر مطلع بوزارة الداخلية أوضح لنا أن “المهمة كانت مناطة بمكتب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بالمغرب، عندما كانت أفواج الهجرة غير النظامية اعتيادية قبل 2011، لكن الأعداد الهائلة التي بدأ المغرب يستقبلها في العقد الأخير، جعلت الدولة تتعامل مع الملف بمقاربة أمنية بسبب الخطر الإرهابي المرتبط بهؤلاء المهاجرين، خاصة أن أغلبهم لا يحوز أي وثيقة تعريف تثبت الهوية”، بتعبيره.

ولعل المحاولة العنيفة لاقتحام سياج مدينة مليلية من طرف 2000 مهاجر سوداني تؤكد “واقعية” هذا التصور الأمني، وإن كانت الحركات الحقوقية تدعو إلى تبني “المقاربة الإنسانية”. وبالعودة إلى محاضر القضية، التي اطلعت عليها هسبريس، يتضح أن الجهة المسؤولة عن الحادث هي شبكة إجرامية ذات نسق هرمي في مجال الهجرة غير الشرعية من ليبيا والجزائر، تضم في عضويتها العديد من الجنسيات الإفريقية؛ بينها المالية والجزائرية والسودانية.

التعامل الأمني مع محاولة الهجرة العنيفة بسياج مليلية يعتبره محمد حسونة، سوداني مقيم بطريقة قانونية في المغرب متتبع لشؤون الهجرة بالمنطقة، “مفهوما”. ويرجع ذلك إلى “التوقيت الزمني المشترك والأعداد الضخمة للمهاجرين”. كما يقول إن “الأمر يتعلق بمنطقة حدودية حساسة، لها منطق أمني صرف، عكس بقية المناطق الجغرافية الأخرى التي لا يتعرض فيها المهاجرون لأي مضايقات أمنية، باستثناء بعض الحملات الدورية”.

ومع ذلك، تطرح كيفية تعامل السلطات المغربية مع المهاجرين السودانيين تساؤلات كثيرة حيال الحادث الذي وقع بسياج مليلية. مصادر حقوقية بالناظور كشفت  أن “السلطات المحلية بالناظور هي التي تتحمل مسؤولية الفاجعة”. وفسرت ذلك بكونها “منحت السودانيين مهلة 24 ساعة لمغادرة غابة كوروكو، ما دفع المهاجرين إلى اختيار الورقة الأخيرة؛ وهي المخاطرة بالهجوم على السياج الحدودي”.

وبهذا الشأن، يقول عمر الناجي، عضو الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بالناظور، إن “تعامل سلطات الناظور مع أحداث باريوتشينو كان شاذا، وشابته خروقات عدة”. ويردف بأن “طالبي اللجوء كانوا مستقرين بالغابات البعيدة عن المعبر الحدودي بأزيد من 20 كيلومترا، لكنهم تعرضوا للضرب العنيف من قبل السلطات”، مشيرا إلى أن “الحادث خلف عشرات الوفيات والجرحى والمفقودين”.

عبد الرحمان محمود يتفق مع ما جاء على لسان الحقوقي سالف الذكر، مؤكدا أنه “لم يضرب أحدا بمليلية، ولم يعتد على أي شرطي”. ومن داخل غابة “كوروكو” التي يعتزم مغادرتها بعد تشديد المراقبة الأمنية عليها، يتحدث لنا عن الواقعة بقوله: “وضعتنا السلطات أمام خيارين لا ثالث لهما؛ إما تسلق سياج مليلية بتلك الطريقة، أو انتظار تدخل الفرق الأمنية التي كانت عازمة على طردنا من الغابة”، ليختم تصريحه بالإشارة إلى أن “آثار الجروح ما تزال بجسدي”.

“مرتزقة” يهددون أمن المملكة

التوجس من أفواج المهاجرين السودانيين لديه مبررات صرف أمنية، بالنظر إلى التقارير الاستخباراتية التي كشفت عنها بعض المنظمات الحقوقية الأوروبية بخصوص تجنيد مئات السودانيين في صفوف الميليشيات العسكرية الليبية؛ وذلك خلال فترة الحرب التي دامت نحو عقد بالأراضي الليبية.

وتشير تقديرات تلك المنظمات إلى وجود نحو 3000 مهاجر سوداني بالأراضي الليبية، جرى توظيفهم “مرتزقة” لصالح الجماعات العسكرية المتطاحنة، لكن مصيرهم ظل غامضا بعد استئناف العملية السياسية الأممية. وتحذر التقارير الأوروبية، التي اطلعت عليها هسبريس، من هجرة هذه الوفود إلى “القارة العجوز”، وما يطرحه ذلك من تحديات أمنية.

مالك الديجاوي، رئيس برنامج الهجرة غير الشرعية بليبيا، صرح  بأن “تلك الجماعات المسلحة تعاقدت مع مقاتلين متقاعدين من الجيش السوداني أثناء الحرب، فيما وظفت المهاجرين الاعتياديين في أعمال السخرة والترجمة”، مبرزا أن “المهاجرين الراغبين في الهجرة إلى أوروبا لا تربطهم أي علاقة عسكرية بالميليشيات”.

في هذا الإطار، أكدت مصادر سودانية أن قوات الدعم السريع (ميليشيا سودانية مسلحة شبه حكومية لمكافحة الهجرة) تساهم في “تأزيم” أوضاع الهجرة بالمنطقة، بسبب تورط بعض أعضائها في أعمال تهريب المهاجرين بالحدود؛ وذلك انطلاقا من السودان باتجاه ليبيا. وبالفعل، انتقدت تقارير سابقة للأمم المتحدة “تدخل” هذه القوات العسكرية في الشأن الداخلي الليبي.

وحول تدفق السودانيين إلى ليبيا، ومنها إلى المغرب، تشدد أميرة أحمد محمد، مسؤولة سودانية سابقة عن مكتب منظمة الهجرة بمصر، على أن “بعض عناصر قوات الدعم السريع منخرطة في أعمال تهريب السودانيين بالمنطقة، بشهادة المهاجرين غير النظاميين أنفسهم”. تلك العناصر يعتبرها كمال حذيفة وديدي، وهو خبير سوداني في قضايا الهجرة مقيم بالخرطوم، “جزءا لا يتجزأ من شبكة إجرامية إقليمية تقوم بتهريب السلاح والمرتزقة والمهاجرين”.

عبور الموت ينتهي بالموت

رحلة الحياة والموت تنتهي أحيانا بالموت في الطريق إلى أوروبا. العديد من السودانيين لم يستطيعوا استكمال رحلة “الفرصة الأخيرة”، لينتهي بذلك حلم البحث عن حياة الضفة الأخرى في المغرب. واقع يراه يوسف شملال، فاعل حقوقي مهتم بقضايا الهجرة، “صادما ومفجعا في الوقت نفسه”، ليلفت إلى أن “المهاجرين يسافرون إلى الموت”.

وخلال إعداد هذا التحقيق، زرنا مقابر مدينة وجدة بغاية التأكد من استقبالها للمهاجرين المتوفين. البداية كانت من “المقبرة الإسلامية” التي دفن بها مهاجران سودانيان، نال منهما المرض بعد بلوغ محطة المغرب. بعدها، انتقلنا إلى “المقبرة الأوروبية” التي دفن بها أيضا مهاجر سوداني.

إجراءات دفن السودانيين المتوفين تتكلف بها جمعية مساعدة المهاجرين في وضعية صعبة بوجدة، بعد التنسيق مع أجهزة النيابة العامة والشرطة والدرك الملكي والمجلس الجماعي والمستشفى الإقليمي. هذه التجربة الرائدة بالمملكة يقودها الحقوقي حسن عماري، الذي يؤكد أن الهدف يتمثل في “دفن جثث المهاجرين بكرامة”.

ووضح عماري، أن “عملية الدفن تشمل كل المهاجرين الأجانب دون استثناء، بما يشمل السودانيين”. تلك العملية تمر عبر ثلاثة مراحل؛ أولها تحديد هوية الجثة بناء على الملابس والصور الشخصية، حيث يتم تقاسم المعطيات المتوفرة لدى الجمعية مع الجاليات الإفريقية بمدينة وجدة (عددها يتعدى 17)، وكذا مع نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي.

المرحلة الثانية في عملية الدفن، تبعا للمتحدث ذاته، تتمثل في التواصل مع عائلة المهاجر المتوفى بعد تحديد هويته من أجل الحصول على التوكيل الرسمي، ليتم توزيع ملف الجثة على النيابة العامة والدرك الملكي والشرطة وإدارة المستشفى الإقليمي قصد الحصول على المحاضر الرسمية المتعلقة بالدفن.

أما المرحلة الثالثة، فتتجلى في التواصل مع المجلس الجماعي بشأن مراسم الدفن، حيث يتم حمل المتوفى إلى المسجد للصلاة عليه، قبل دفنه بـ”المقبرة الإسلامية”. وإذا كان مسيحيا، تقام مراسم الجنازة بالكنيسة، ثم يدفن بـ”المقبرة الأوروبية”.

وعن كيفية تمويل العملية، قال عماري إن “التمويل يقتصر على المحسنين فقط”، مضيفا أن “الجمعية دفنت 51 جثة بمقابر وجدة، بينها جثث 3 سودانيين، بينما ما زالت جثة سوداني قيد البحث الهوياتي”.