بين طول أمد حرب لا بشائر لتوقفها، وإطلالة شتاء يخشى أن يكون قاسيا في ظل التحولات المناخية المتسارعة خلال السنوات الأخيرة، لا تريد السلطات السويسرية أن تخطئ الموعد مع سيناريوهات قاتمة لحركة الإمدادات الطاقية.

وتتبلور في هذا السياق دينامية تفاعلية بين المنظمات المدنية وأقطاب الخبرة والسلطات العمومية من أجل رفع تحدي اقتصاد الطاقة كمدخل لضمان انتظام تزويد السوق وتقليص تبعية هذه البلاد، الغنية بمواردها الطبيعية والإيكولوجية وبحيوية اقتصادها الخدماتي، للإمدادات الطاقية الخارجية.

وإذ تراهن السلطات في العاصمة الفيدرالية بيرن على انخراط طوعي للأفراد والمقاولات والمؤسسات المختلفة في تنزيل مختلف التدابير الترشيدية المعروفة لكن “المنسية” في زمن الرخاء، فإنها تحتفظ في الرف بمخطط أكثر تشددا في حال عدم تحقيق الأهداف المسطرة لتقليص استهلاك الكهرباء، وخصوصا الغاز.

لا يبدو هذا التوجه غريبا تماما عن حركية الانخراط السويسري في توفير دعائم تحقيق أهداف تنمية مستدامة نظيفة، ذلك أن المجلس الفيدرالي يهدف إلى تقليص انبعاثات الغازات الدفيئة بمقدار النصف في أفق 2030 مراهنا على تشجيعات لتوجيه الاستثمار نحو الحلول التي تحترم البيئة. وقد تكرس ذلك في النص الذي اعتمده مؤخرا لمراجعة القانون حول ثاني أكسيد الكربون برسم الفترة 2025-2030.

وبالموازاة مع ذلك، يروم المشروع تعزيز التزويد الطاقي لسويسرا وتقليص تبعيتها تجاه الغاز الطبيعي. وهو لا يتضمن إقرار رسوم جديدة بل يراهن على تحفيزات فعالة، بحيث يتيح للاتحاد السويسري ضخ 4,1 مليار فرنك بين 2025 و2030 لحماية المناخ. بعض هذه الاعتمادات ستوجه نحو قطاعات مختلفة مثل البناء والشبكات الحرارية والسيارات الكهربائية وإدخال الحافلات الكهربائية في النقل العمومي… إلخ.

واستباقا لحلول موسم الشتاء الذي يعرف ذروة الاستهلاك الطاقي، تشمل التدابير المعتمدة لترشيد اقتصاد الطاقة الاستغناء عن الإنارة غير الضرورية ووقف تشغيل الأجهزة المستهلكة للطاقة كلما كان ذلك ممكنا تقنيا.

ويبدو سياق هذا الموقف الاحترازي واضحا في ارتباطه بالظرفية الجيوسياسية التي تجسدها الحرب الروسية-الأوكرانية، وتعطيل الإمدادات الروسية. صحيح أن سويسرا لا تواجه نقصا اليوم لكنها تبدي استعدادا لسيناريو أسود من هذا القبيل. والواقع أن خبراء وناشطين سياسيين يدعون المجلس الفدرالي إلى التحرك سريعا.

وكان المجلس قد أطلق حملة رفعت شعار “الطاقة محدودة. لنتجنب إهدارها” تتضمن تحفيزا لترشيد الكهرباء، وتقليص حرارة التدفئة، وعقلنة استهلاك الماء الساخن، ووقف تشغيل الأجهزة الكهربائية والأضواء وترشيد أنشطة المطبخ.

ويعلق الأمل على هذه الإجراءات لتعزيز الإمداد الطاقي ودعم الهدف المحدد من قبل المجلس الفيدرالي بتقليص استهلاك الغاز بـ 15 في المائة.

وتتخذ هذه التوصيات المتعلقة باعتماد ممارسات مثلى طريق الشبكات الاجتماعية إلى جانب موقع خاص على الأنترنيت حول وقف إهدار الطاقة وفتح خط للتجاوب مع أسئلة الجمهور.

عاملان إذن لا يمكن التحكم فيهما: طول وقساوة فصل الشتاء وحجم وانتظامية الإمدادات الروسية، وهما مصدر خوف في ظل غياب مخزونات محلية تضمن استمرارية التزويد. ولأن الأمن الطاقي مسألة حيوية بالنسبة لجميع الدول، فإنه في حال تحقق وضعية ندرة طاقية، ينذر المجلس الفيدرالي باعتماد مخطط لتقييد ثم تحصيص استخدام الغاز على مستوى الاستهلاك المؤسساتي والفردي.

وتفيد الدراسات بأن إمكانيات الاقتصاد الطاقي في الصناعة والخدمات عبر تدابير النجاعة الطاقية قد تتراوح بين 25 و30 في المائة، سواء بالنسبة للكهرباء أو المحروقات، علما أن الصناعة السويسرية تستهلك 18 في المائة من الطاقة النهائية للبلد في شكل كهرباء ومحروقات أحفورية لإنتاج الحرارة. وهو إنتاج أقل من المعدل الأوروبي الذي يصل إلى 25 في المائة، الأمر الذي يفسره تراجع الاعتماد السويسري على التصنيع والتوجه نحو اقتصاد الخدمات الأقل استهلاكا للطاقة.

المشكل الطاقي غير مطروح اليوم لكن سويسرا لا تنتظر حلول الكارثة.