أتذكر خلال سنة 2011 في أحد النقاشات الطلابية بأروقة جامعة محمد الخامس، كنا نتكلم حول مآل الحراك العربي آنذاك ونطمح بدوره في تجاوز كل الإشكالات والعراقيل التي كانت تعيق تطور وتقدم دولنا العربية، فعبر التاريخ العربي الحديث، كانت هناك إشكالات وبقع رمادية كثيرة، استطاعت السيرورة الزمنية إيجاد حلول لبعضها وتجاوز بعضها، ولا زالت تعاني من أخرى لحد الساعة.

كانت النقطة التي أخذت الحيز الزمني الأكبر من النقاش تتعلق بعلاقة الدين بالدولة، لكونها أحد الإشكالات العويصة التي لازالت بلداننا العربية تعاني من عدم فهمها وتوضيحها إلى اليوم. فمنذ انتشار الفكر الاشتراكي في الدول العربية لم يستطع إيجاد حل لهذه العلاقة وكان الاشتراكيون العرب في غالبيتهم يتجنبون الحديث في هذا الأمر. ويسير عدد من الباحثين في اتجاه أن من أسباب عدم استمرار المد الاشتراكي في المنطقة العربية هو فشله في فتح نقاش في علاقة الدين والدولة، وسماحه لباقي التيارات بوصفهم -الاشتراكيون العرب- بأعداء الدين.

في كل حراك عربي أو محاولات لتغيير الأنظمة الحاكمة، يعاد فتح النقاش حول مكان الدين في الدولة والدستور، في سنة 2011 خلال موجة “الربيع العربي” كما يحلو للصحف أن تسميها، كانت عدد من الدول العربية تعرف مرحلة انتقالية مهمة في تاريخها تأمل أن تقودها إلى محطة الديمقراطية.

كانت دولتي تونس والمغرب من الدول التي قامت بتغييرات جذرية تمخض عنها إصلاحات مهمة تجسدت في دساتير جديدة للبلدين، هذين الوثيقتين عرفتا خلال إعدادهما نقاشات وتجاذبات ومرافعات لكل أطياف المجتمعين، ولعل أكثر النقط الشائكة التي تخللت النقاشات هي مكانة الدين في البلدين.

ففي تونس، تطلب الأمر ثلاث سنوات من أجل الخروج بدستور جديد سنة 2014، بحيث عرفت كواليس إخراجه الكثير من النقاشات والسجالات، وصلت إلى قمتها عند اغتيال رمزين كبيرين للمعارضة (البراهمي محمد ؛ شكري بلعيد)، الشيء الذي أدى لتفاقم الصراع بين التيارين الإسلامي واليساري لدرجة تبادل الاتهامات فيما بينهما، ويتجدد هذا الصراع كلما أثيرت نقطة مكانة الدين الإسلامي في الدولة والدستور، ولولا تدخل المجتمع المدني التونسي لإيجاد حل ولم الموضوع لكان هناك مسار آخر سيعصف بمسلسل الانتقال الديمقراطي التونسي، وتجنيبها خطر سيناريو آخر، وقاد المجتمع المدني الحوار وكل المشاركين فيه إلى بر الأمان ورافقهم حتى إخراجهم للوثيقة الدستورية الجديدة بشكل جمعت وتضمنت فيه كل الآراء وكل الأطياف.

جاء الفصل الأول من الدستور التونسي في صيغته الآتية: “تونس دولة حرة مستقلة وذات سيادة، الإسلام دينها والعربية لغتها والجمهورية نظامها”، ويؤكد هذا الفصل أن تونس هي دولة مدنية وأن الإسلام دين الشعب -الغالبية- بشكل يوحي إلى أن الدين لا يمكنه أن يتدخل في تحديد العلاقات بين مؤسسات النظام ولا في تدبير شؤونها، كما يستمر الدستور في تحديد علاقة الدين بالدولة في الفصل السادس، من خلال ضمانه لممارسة الشعائر الدينية بشكل مستقل عن استغلال هذه الأخيرة من طرف أي اتجاه وطرف.

تطرق الدستور التونسي أيضا ل”حرية الضمير” وجرم التكفير، لخلق توازن بين التيارات الإسلامية والتيارات المدنية. وهذا إن كان يدل على شيء فهو يدل على أنه فعلا الدستور التونسي هو ونتاج جدال طويل ونموذج لوثيقة دستورية وطنية تشمل كل التونسيين وتبرز مكانة الدين في الدولة بشكل متقدم أمام أقرانها من البلدان العربية.

بينما في الدولة المغربية، كان الأمر أسرع زمنيا وأبطأ موضوعيا، فمنذ انخراط الشعب المغربي بالحراك العربي، استجاب النظام لمطالب الإصلاحات، وقام بإعداد دستور 2011 الجديد الذي أكد على أن الإسلام دين الدولة الرسمي، وحدد علاقته بمؤسسات الدولة من خلال تحديد علاقته بالمؤسسة الملكية باعتبارها الجهة الأعلى في البلد.

حدد الفصلين 41 و42 من الدستور سلطات الملك باعتباره رئيس الدولة من جانب وامير المؤمنين من جانب آخر، هذه السلطة الدينية تمنح شرعية دينية للمؤسسة الملكية، وتنعكس على باقي الاختصاصات الملكية، فالقوانين والظهائر الملكية التي يصدرها الملك باعتباره أمير المؤمنين لا تقبل النقاش أبدا، ويكون البت فيها نهائيا، ويستنتج من قراءة الفصلين سابقي الذكر أن مؤسسات الدولة هي المسؤول المباشر على المؤسسات الدينية والتي تخضع عموديا للإشراف الملكي من خلال تعيين وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية على مر عقود من الزمن من طرف الملك، ولم يسبق أن كان هذا الوزير معين من طرف الحزب الفائز بالانتخابات.

ليكون الدستور المغربي الجديد أعاد إنتاج نفس المناطق الرمادية فيما يتعلق بعلاقة الدين بالدولة، وأكد مجددا على أن كل السلط الدينية في يد الملك، وذلك بموافقة كل الفاعلين في الحقل السياسي، والذين ليست لهم الجرأة على إبداء حتى رأي في هذا الشأن، ما يجعلنا أمام معضلة غموض العلاقة وإمكانية استعمال الدين في أمور سياسية وفي ممارسة السلطة، بشكل يجعل البلد يخسر نقاط في سلم الانتقال الديمقراطي.

إن استمرار هذا الإشكال في علاقة الدين بالدولة وبالغموض في العلاقة داخل الدستور، يساهم في تعطيل مسلسل الانتقال الديمقراطي ويجعل الدين مطية للاستغلال من طرف البعض، خاصة من أجل الوصول إلى الحكم وممارسة السلطة وإقناع الشعوب تحت يافطة “طاعة الحاكم من طاعة الله” بشكل يغيب العقل والمنطق والنقد والتشكيك.

نخلص أن الدول العربية لا زالت بعيدة عن إمكانية تحديد علاقة واضحة بين الدين ومؤسسات الدولة بشكل لا يجعل الدين عرضة للاستغلال لأجل ممارسة السلطة، والدولة العربية الوحيدة التي قطعت شوطا في هذا الجانب هي الجمهورية التونسية، التي احترمت دين المجتمع، وسعت لحماية حقوق وحريات أفراده في نفس الوقت، والتي لازالت أمام امتحان الممارسة لمدة 10 سنوات على الأقل من أجل استنباط تقييم جيد. أمام النموذج المغربي الذي فوت الفرصة لإزالة الضباب عن المنطقة الرمادية المتعلقة بعلاقة الدين بالدولة، وأعاد إنتاج نفس النمط السائد قبل 2011.

آن الأوان للدول العربية أن تحرك المياه الراكدة لموضوع الدين والدولة، بشكل تعتز بأصالتها وهويتها الثقافية الدينية -الإسلامية-، وفي نفس الوقت في إطار احترام القوانين الدولية والقيم الكونية.

 

الحافظ النويني؛

دكتور باحث في العلوم السياسية والقانون الدولي؛