إن المتابع لتصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بشأن الأزمة في شبه الجزيرة الكورية، منذ فصل التنابز بالألقاب والتراشق بالشتائم، مروراً بمبارزة الأزرار النووية، حتى الاتفاق الأخير حول عقد قمة مع الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، يصل إلى نتيجة مفادها أن كل ما تقدم لا علاقة له بالدبلوماسية الأمريكية وفريق المستشارين المحيطين بالرئيس الذين لم تتجاوز فترة أقدمهم في منصبه ثلاثة أشهر.

ففي الرابع والعشرين من يوليو/تموز الجاري، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب، إلغاء القمة المزمعة مع الزعيم الكوري الشمالي، التي كان من المقرر أن تستضيفها سنغافورة يوم 12 يونيو/حزيران المقبل. وأرجع ذلك إلى العدائية التي أبدتها بيونغ يانغ تجاه واشنطن على خلفية تصريحات لمسؤولين أمريكين بشأن نزع السلاح النووي من شبه الجزيرة الكورية. لكنه عاد بعد أقل من 24 ساعة، ليصرح بأن بلاده أجرت محادثات بناءة مع بيونغ يانغ للاتفاق من جديد على عقد القمة في مكانها وموعدها المحددين سلفا، وقال إن الأمور تسير بشكل جيد في ما يتعلق بالمحادثات الجارية حول القمة.

حالة التخبط والتذبذب هذه، تشير إلى أن كل ما يطلقه الرئيس الأمريكي في فضائه الإلكتروني من تغريدات وتصريحات، يخضع فقط لمزاجه وأهوائه الشخصية، وما سلسلة الاستقالات والإقالات التي طالت أقرب المقربين منه، وعلى رأسهم وزير الخارجية السابق ريكس تيلرسون، سوى تأكيد على أنه لا مكان في البيت الأبيض لأي شخص مهما كان منصبه، ما لم يتفق وينسجم مع أفكار ومزاج الرئيس.

عقدة أوباما

منذ توليه منصبه مطلع عام 2017، وضع الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، نصب عينيه القضاء على إرث سلفه باراك أوباما، فكانت أولى قراراته إلغاء قانون أوباما للرعاية الصحية “أوباما كير”، تبع ذلك الانسحاب من اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ، ومن ثم الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ، ومؤخراً الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، وهي اتفاقيات أبرمت جميعها في عهد إدارة الرئيس السابق باراك أوباما. وذهب محللون إلى القول إن قرار الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني لا يستهدف الخطر الإيراني وما يمكن أن يشكله من تهديد على الأمن القومي الأمريكي، كما لم يستهدف الانسحاب من اتفاقية الشراكة التجارية، حماية العمالة والأسواق الأمريكية، وفق مبررات ترمب، بل أنها كانت موجهة في المقام الأول إلى إدارة أوباما السابقة لمحو أي بصمة لها من الذاكرة الأمريكية.

أما فيما يتعلق بالملف النووي الكوري الشمالي، فقد حمّل ترمب منذ بداية حكمه، إدراة أوباما مسؤولية التساهل في هذا الملف، وقال إن الكوريين الشمالين تمكنوا من خداعه على مدار سنوات حكمه. لذلك يرغب ترمب، في إيجاد حل للأزمة الكورية بأي ثمن، على خلاف الإدارة السابقة، الأمر الذي يفسر انفتاحه غير المسبوق والمضطرب في هذا الاتجاه. وربما يعلل ذلك رغبته الشديدة في الحصول على جائزة نوبل للسلام، في حال إبرام اتفاق سلام تاريخي مع كوريا الشمالية، وهي الجائرة التي تعطي أفضلية للرئيس السابق في منافسة من طرف واحد، وإن كانت جائزة نوبل قد منحت لأوباما في وقت مبكر من رئاسته كخطوة استباقية عن إنجازات لم تتحقق.

كبرياء بيونغ يانغ

رغم الخطوات البعيدة التي قطعها ترمب في هذا الاتجاه، فإن تطلعاته تصطدم بإرادة صلبة ورؤية واضحة لدى بيونغ يانغ، فكوريا الشمالية اليوم تختلف عما كانت عليه أثناء المحادثات السداسية، خصوصاً بعد أن أعلنت عن نفسها دولة نووية قادرة على استهداف الأراضي الأمريكية بصواريخ بالستية عابرة للقارات. كما أن تلك الدولة التي وافقت في سنوات سابقة على اتخاذ خطوات تدريجية لنزع سلاحها النووي، مقابل بضع شحنات من الوقود الثقيل، لم تعد تقبل اليوم مجرد التلميح من مستشار ترمب للأمن القومي، إلى إمكانية اتباع النموذج الليبي في نزع السلاح النووي من شبه الجزيرة الكورية.

تلك المعطيات تشير إلى أن المحادثات التي من المقرر أن تنطلق في سنغافورة بين دونالد ترمب وكيم جونغ أون، في منتصف يونيو حزيران المقبل، ستمر في مخاض عسير، وسيكون السؤال الأهم بالنسبة للطرفين، هو الثمن الذي ستقدمه واشنطن مقابل إقناع بيونغ يانغ بالتخلي عن ترسانتها وهويتها النووية. فالضمانات الأمنية لم تحم نظام العقيد الراحل معمر القذافي في ليبيا، ورفع العقوبات لم يعد مطلباً أساسياً في ظل “عقيدة سونغون” التي يؤمن بها الكوريون الشماليون منذ عهد الزعيم الراحل كيم جونغ إيل، وهي عقيدة تعطي الأولوية لحماة الوطن قبل أي شيء آخر، وتعتبر فقر الشعب ضرورة لبناء جيش قادر على حماية الدولة.

أي ثمن سيبدو بلا قيمة في ميزان بيونغ يانغ، ما لم يفض إلى اتفاق سلام ينهي حالة الحرب في شبه الجزيرة الكورية المستمرة منذ خمسينيات القرن الماضي. أما محاولة بيع الوهم والكلمات المعسولة على أساس “الفعل مقابل الكلام” فمن شأنه أن يشعل فتيل حرب جديدة، ولكن هذه المرة على إيقاع الأزرار النووية.