لاشك ان العيب ليس من صفاتنا، أخلاقيا أو عرفيا أو عادة. لكن هنا أعطي مقارنة بين واقعين التمدن و البدو، كما انيلست اعيب المدينة ولا ساكنتها، و لكن فقط اقدم مقارنة بين ساكنة الحضر و ساكنة البدو، فمن المعروف على ان اهل الصحراء يتميزون بالعديد من المزايا التي يستحيل حصرها في بضعةأسطر،فلسان البدو غالبا ما يكون أكثر فصاحة من أهل المدينة بالإضافة الى تركيزهم العالي و نقاء ذهنهم من متطلبات الحياة الكثيرة في المدينة القليلة في الصحراء. و ابتعادهم عن كل ما يبعثر صفاء الذهن من اتصالات و تكنولوجيا و جديد اخبار العالم و التحديات الراهنة التي تواجه الأرض. فكل ما يشغل بالهم الدين و العبادة و الحفاظ على عادات اجدادهم الأولين.

وكما هو معروف على انه لكل نبات منبت خاص به، فغالبا ما نجد الصبار ينبت في الاراضي القاحلة والتي تتسم بنذرة الماء لقوته و تحمله، اما الورود الحمراء فغالبا ما تكون في الحديقة أو مشتل و تحتاج لكثرة المياه و إذا قل الماء تموت حتما، فإنه نفس الشيءبالنسبة للأبطال و الشجعان فإن بيئتهم الوحيدة التي يترعرعون فيها و يكتسبون محاسن الكلام و حسن الأدب و المعاملة من “بيئة البادية”، انها تلك الحياة الصافية من كل ما من شأنه أن يعكر صفو الانسان البسيط و سليمة من الابتذال و التصنع و العديد من العادات المستحدثة التي طرأت على المجتمعات المدنية وليدة عصرنا الحالي ما أدى بالإنسان الى تناسيعاداته و تقاليده الاولى.فهذا الاخير هو ابن بيئته و ما يتخللها من مظاهر.

ولكي تتضح الصورة أكثر، سنعطي نموذجا حيا من صحراء تيرس، تلك الصحراء المتناثرة الاطراف، و التي تعجز الكلمات عن وصف جمالها و اتساع أراضيها و نقاء تربتها و صفاء غديرها و سعادة سكانها و بساطتهم. فكل من زار البادية يحس براحة نفسية يستحيل ايجادها في مكان اخر من العالم. بحيث ينسلخ عن مجموعة من أساسيات المدينة و يمكنه المشي حافيا لساعات طوال بين الوديان و الجبال العتيدة القديمة قدم التاريخ.و يحن إلى مرابع لهو الصبا و التحدث لساعات طوال مع أهل البدو من دون عناء، و هنا يظهر جليا على انهم حافظوا على التواصل الاجتماعي بينهم على اختلاف أهل المدينة التي أصبح كل شخص منهمكا مع هاتفه النقال طوال الوقت يجوب العالم كله و يستحيل عليه الجلوس في مائدة مستديرة و فتح نقاش جاد لمدة ساعة واحدة فقط. فالمقارنة بين مميزات البادية و سلبيات المدينة طويلة و يصعب الاحاطة الشاملة الكاملة بها.

فأهل البدو يتميزون أيضا بالكرم و الوفاء الذي قل نظيره في حياة المدنية التي يغلب عليها المكر و الخداع، فصديق اليوم في المدينة قد يتحول بين ليلة و ضحاها الى عدو الغد، بحيث أنه لا وجود لشيء ثابت فكل شيء متغير.

كما أنّه لا يخفى على كل عاقل فضل البادية، فالصحراء هي منبت العرب، وصمام امان الرجولة ، ومأوى الأحرار، وفيها يتعلم الرجل شرف الأخلاق، وكرم الطباع، وعزة النفس،  والصبر على العيش،  مع ما فيها من السير بالأرض،  والتفكر في سنن الكون،  وما صنعه الباري من الأشجار والنباتات، والدواب والهامات، والجبال الراسيات، وقد أختص البدوي بعدد من الصفات التي تميزه عن أهل الحاضرة كالشجاعة والنجدة، والصبر والشدة، والكرم والجود، وصفاء الذهن، وخلو القلب، وحسن النية، مع معرفته بالجهات، وطوالع النجوم، وأسماء المواضع، وطرق الجبال، ومسالك الأودية، ومنابع المياه .

وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضى الله عنه أن النبي صلى الله علية وسلم قال: ( ما بعث الله نبياً ألا ورعى الغنم، فقال أصحابه: وأنت يا رسول الله ؟،فقال: نعم كنتأرعاها على قراريط لأهل مكة ) ولا يخفى أن رعي الغنم لا يكون إلا في الصحاري والبوادي وسط الأودية والشعاب وحول سفوح الجبال.

إن حياة البادية أجمل حياة يعيش فيها الانسان بعيداً عن حياة الازدحام والضجيج وتعقيد الحياة في المدينة، فالبادية تمثل جمال الطبيعة ووضوح الصحراء وحياة العزة والشجاعة والأخوة والنخوة والكرم والصبر على الشدائد.

إنّه لا يعرفها إلا من عاش فيها، ورغم الحياة الصعبة في القديم وقساوة الحياة ولكنها تمثل الحياة الجميلة البسيطة الهادئة التي تجعل البدوي يكون من السعداء في الأرض، بالحرية والانطلاق والتمتع بما أودعه الخالق سبحانه من الجمال في الأرض والتفكير في خلق السموات والأرض.

إنّ البدو أصل العرب: نحن بداوتنا شيم دين وقيم.. إن البداوة تعني التمسك بالجذور ليس التخلف والجهل.. ولو عشنا ببيوت الشعر.. عيشة ألم وعيشة فقر.. نشرب من الماء المهماج ونكحل نواظرنا بعجاج وغسيلنا حفنة رمل هي الدواء وهي العلاج.. وفراشنا رمل الثرى وسراجنا نور القمر.

فالقصائد التي تحدثت عن رغد العيش في البادية كثيرة و سنقتصر على بعضها:

لبيت تخفق الأرواح فيه أحب إليّ من قصرمنيف

ولبس عباءة وتقر عيني أحب إليّ من لبس الشفوف

وكلب ينبح الضيفان دوني أحب إليّ من قط ألوف

وأكل كسيرة في كسر بيتي أحب إليّ من أكل الرغيف

وأصوات الرياح بكل فج أحب إليّ من نقر الدفوف

وبكر يتبع الأظعان صعب أحب إليّ من بغل زفوف

وخرق من بني عمي نحيف أحب إليّ من علج عنيف

خشونة عيشتي في البدو أشهى إليّ نفسي من العيش الظريف

فما أبغي سوى وطني بديلاُ فحسبي ذاك من وطني شريف

كما أنّ هناك أبياتاً كثيرةً، منها أبيات في مدح دريد، أحد بطون الأثبج من بني هلال، الذين يقول عنهم ابن خلدون : ” وأما دريد فكانوا أعز الأثبج كلهم عند دخولهم إلى أفريقية لحسن بن سرحان بن وبرة إحدى بطونهم “. تقول الأبيات :

تحن إلى أوطان صبرة ناقتي*** لكن معاً جملة دريد حوارها

دُّريد سراة البدو للجود منقع***كما كل أرض منقع الماء خيارها

وهم عرب الأعراب حتى تعرفت***بطرق المعالي ما ينوفي قصارها

وتركوا طريقالبازمين ثنية***وقد كان ما يقوي المطايا حجارهــا

 

وفي النهاية نختم بقصيدة رائعة تصف جمالية الصحراء الرائعة:

أنا الصحراء يامن تجهلوني***أنا البيداء شائكةٌ غصوني

سلو التاريخ عمن مات فوقي***وأين قبورهم؟ لاتسألوني

سلو الأعراب عن حبي وشوقي***وجودي بالعطايا إن أتوني

وعن وحشٍ تربى في جبالي***وعن ضبيٍ توارى في متوني

عند القيضِ حائرةٌ رمالي ***نسيمي غض إن نامت جفوني

شروق الشمس يغدق في دلالي***وعند غروبها عجباً تروني

سلو الصماء عن تلك الأقاحي***إذا همست رجاءً خبئوني

يثور النقع إن هبت رياحي***فأخمدهُ بدمعٍ من عيوني

فما عرفواغديري من سرابي***وإن ماتوا بعطش يظلموني

لعمري الله أوردكم عذابي      ***وأسلككم فجاجا فأسلكوني

أنا الصحراء كم صعبٌ وصالي***دمارٌ غضبتي فلتحذروني

مداد القلب أنبأكم بحالي***فحلوا مرحبا أوغادروني