كثر الحديث عن الأزمة في الطنطان، وكثر الناقمون وظلت صيحات الاستهجان والتذمر تعلوا وتشتد باستمرار إزاء واقع سوسيو اقتصادي مرير لم يتزحزح، وما تزال ترزح تحت نيره مدينةٌ منسية طال أمد التغيير فيها، وتخلفت كثيرا عن سيرورة الورش التنموي في أقاليم الصحراء وفي المغرب عموما.

ولئنْ كان الكثيرون يلقون باللوم دائما كما درجت العادة، على المجالس الانتخابية المتعاقبة، وعلى بعض الوجوه الروتينية التي احتكرت في نظرهم حق تمثيل الإقليم في قباب المؤسسات العمومية،دون أن تقوم  في المقابل بما يلزم من الجهود من أجل الترافع عن قضايا المنطقة وخدمة مصالحها العليا حتى ولو في حدّها الأدنى.. فإنني شخصيا أعتقد بأن الأزمة من منظورها العام أعمق وأكبر وأكثر تشعبا من ذلك، إنها أزمة مركبة يتداخل فيها المرحلي بالبنيوي والاقتصادي بالتاريخي، ولا تنحو بعيدا عن مجمل التناقضات الاجتماعية والثقافية التي ما زالت إلى اليوم تعترض سبيل الانتقال المدني البطيء لمجتمعات الجنوب من تيه البداوةإلى قواعد المدنيّة الصارمة وآفاقها الممتدة الشاسعة، تماما كشساعة هذه الصحراء الواسعة وكرحابة الأحلام التي تحملها قلوب وعقول أهلها، والأحلام النبيلة من حيث المبدأ تظل مشروعة في كل الأحوال.

وكي لا يتوه مقالنا هذا في فوضى الأبعاد المتفرقة، دعونا نركز على الجانب الماكرو اقتصادي في القضية، لعلنا بذلك نعثر على رأس الخيط التائه في مشهد تنموي معتم وفضفاض، يخفي الكثير من المآزق ويحتفظ لنفسه ببصيص صغير من الأمل.

مدينة طانطان كغيرها من مدن الجنوب، تعد بمثابة مشروع انتقالي مستمر من حالة الجمود والفراغ إلى دينامية الفعل التنموي، وهي في خضم ذلك تحتاج كغيرها من الحواضر الناشئة إلى عدة محفزات نوعية تنطلق من الأسس الموجودة على أرض الواقع، بكل عناصرها البشرية والطبيعية واللوجيستيكية بغية استثمار مختلف المؤهلات التي يوفرها المجال والعمل على بلورتها واقعيا لتعزيز الفرص وخلق الغائب منها، كل ذلك في أفق تحقيق الإقلاع الاقتصادي المنتظر، وهو مطلب تنتظره الساكنة منذ سنوات وربما منذ عقود، دون أن تجد لذلك سبيلا.

وإذا كانت التنمية في أساسها محض فكرةٍ كما تقول أدبيات الباحثين، فإن تعزيز أفق التفكير الاستراتيجي العميق من شأنه اليوم أن يكون حجر الزاوية في المشروع التنموي الذي تنتظره المدينة والمنطقة بصفة عامة.

وفي واقع الأمر، فإن محدودية الثروات التي يزخر بها المجال على أهمية بعضها، وضعف البنية التحتية والتردي الفادح للقدرة الشرائية بين أوساط المستهلكين، ناهيك عن أزمة العقار وغياب السند القانوني الذي يحمي ملكية المستثمر، تمثل في الحقيقة عوامل معيقة ستؤثر حتما على مستوى التنافسية الاقتصادية للمدينة، وستحدبلا شك من فرص إقلاعها وتطورها.

إذا كانت التنمية في أساسها محض فكرةٍ كما تقول أدبيات الباحثين، فإن تعزيز أفق التفكير الاستراتيجي العميق من شأنه اليوم أن يكون حجر الزاوية في المشروع التنموي الذي تنتظره المدينة

وفي المقابل ووسط هذا الكم من المعيقات والإكراهات، يبقى هنالك هامش من المتاح والممكن اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، ويظل استثماره رهينا بجدية الفاعل المحلي والمركزي ومدى الانسجام بين مختلف الجهات المتدخلة في صنع القرار وتنفيذه. وبالتركيز على العنصر الثقافي بالذات، فإن هنالك الكثير مما ينبغي فعله إن كنّا نتوخى خلق تنمية حقيقية تنطلق من مزايا المنطقة، والتي يعتبر الجانب الثقافي في سياقه السياحي والاستثماري عُنصرا أساسيا من بنيتها، وعليه يُعوّل كي تضع المنطقة يدها على الخيار التنموي الصحيح والواعد.

وفي هذا الاتجاه، يحتاج الإقليم اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى خطة عمل لاستهداف تلك المشاريع الثقافية المبتكرة والفريدة، ضمن إطار ورش كبير يستهدف خلق تنمية ثقافية معتمدة على التيمة المحلية للمنطقة، واستثمار الفرص التي يتيحها موسم طانطان خاصة وأن الضيف الدائم لفعاليات الملتقى كما هو معروف هو نفسه المستثمر الخارجي المباشر رقم اثنين بعد فرنسا على مستوى المغرب – دولة الإمارات العربية المتحدة -، مما يعني حاجة ماسة إلى إنجاز خطة عمل دقيقة لاستهداف عينة مدروسة من المشاريع الثقافية الرائدة. و لن يكون ذلك ممكنا إلا عبر العودة أولا إلى سياقه الثقافي الأصيل والتوقيع على قطيعة تامة مع سنوات البهرجة والتيه التنظيمي والسياقات المختلطة والتي أقمحت الموسم في جوانب لا علاقة له بها وحولته إلى موعد فارغ المحتوى وبعيد عن حمولته الروحية والرمزية، كل ذلك من أجل إدماج أفضل للعنصر الشبابيوالفعاليات المدنية الجادة والتي تحمل رؤية اقتصادية حقيقية لخلق شراكات مع المنظمات ذات الصلة واستقطاب استثمارات خارجية وداخلية والخروج بمشاريع ثقافية مستدامة ومنتجة تُبلوَر على أرض الواقع.

وبالتماشي مع السياسة المنتهجة اتجاه ورش المبادرة الوطنية للتنمية البشرية وإدماج الشباب، تبقى هنالك ضرورة ملحة اليوم لمواكبة هذه المشاريع للسيرورة التنموية للإقليم، حتى لا يكون أثرها ذاتيا محضًا يقتصر على الفئة المستفيدة فحسب، بل كي يمتد بشكل أوسع إلى المنظومة الاقتصادية للإقليم ككل، عبر استحضار فكرة الاستدامة وخلق الثروة واللذان يندرجان ضمن فلسفة المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، مما يعني اختيار مشاريع غير نمطية وغير متشابهة وإنتاجية من الممكن لها أن تستقطب تدفقات مالية جديدة على الإقليم وتشغل أكبر عدد من اليد العاملة ومن المموّلين، بما ينعكس إيجابا على أفق استمرارية هذه المشاريع وعلى المحيط الاقتصادي الذي تشتغل فيه. كما من شأن توجيه هذه المشاريع بغلافها المالي الهام نحو قطاعات اقتصادية واعدة بالنسبة للإقليم كالسياحة والصناعات الغذائية وتثمين المنتوج المحلي للمجال وتلك المتصلة بقطاع الصيد أن يجعل منها رافعة حقيقية لتنمية شاملة للإقليم، يكون رأسمالها هو الشباب والمبادرة والوطنية للتنمية البشرية مع مجهودات الإدارة والفاعلين المحليين.

وحتى يكون المجال الترابي للإقليم بجماعاته القروية والحضرية مواكبا هو الآخر للمتغيرات والمستجدات، فإن هنالك أهمية قصوى للدراسات الاقتصادية في هذا الجانب، حيث أنها تشكل عنصر الضوء الذي تستنير به هذه الجماعات في اختياراتها وخططها وسياساتها العامة. ومن هذا الجانب فإن الاعتماد فيالدراسات الاقتصادية ومخططات تنمية الجماعات التابعة للإقليم على مكاتب دراسات وبيوت خبرة محلية وباحثين محليين، من شأنه ليس فقط تشجيع شباب المنطقة وإتاحة الفرصة للمشتغلين منهم  في قطاع البحث والمعرفة، بل أيضا يشكل عنصرا مساعدا على رفع جودة هذه الدراسات وتعزيز مصداقيتها، بناء على خبرة أبناء الإقليم والذين هم أقرب إلى خصوصية المجال وهم جزء من ماضيه وحاضره ولبنة من لبنات بنائه المستقبلي، وهم كذلك أدرى بتحدياته وبفرص تنميته.

وغير بعيدا عن هذا السياق، فإن توجيه عناية خاصة لمراكز البحث والتكوين الأكاديمي وملأ الخصاص الكبير الحاصل في هذا المجال على مستوى الإقليم والمنطقة الجنوبية ككل، يسترعي إعطاء أهمية خاصة للمركز الجامعي بجماعة الوطية، خاصة في صيغته الحالية كمركز للأبحاث حتى يكون عمادًا من أعمدة التكوين، والبحث، وإنتاج الأفكار الاقتصادية والتصورات التنموية الرائدة والتي تنطلق من مؤهلات المنطقة وخصوصيتها لخلق خطط اقتصادية علمية ترفع التحديات وتبرز الفرص التنموية وتسهل سبل استثمارها، مع التركيز على أهمية أن تكون التكوينات المدرجة في الإطار البيداغوجي للمركز متلائمة مع سوق الشغل الذي توفره المنطقة، وتستهدف أكبر عدد ممكن من شباب الإقليم الراغب في التكوين والتحصيل.

 خبرة أبناء الإقليم تجعلهم أقرب إلى خصوصية المجال وهم جزء من ماضيه وحاضره ولبنة من لبنات بنائه المستقبلي.

كما أن إعطاء الأولوية والعناية الخاصة، لتلك الطاقات البشريةالتي تزخر بها المنطقة والتي تشتغل بجهود ذاتية صرفة في مستويات ثقافية ومعرفية ورياضية وفنية، من شأنه بلا شكأن يثمن فرص الإشعاع والرّقي ولو في بعده المعنوي على أدنى تقدير، غير أنه حتما سيعزز من جودة المناخ العامالمساعد على نجاح تلك الأوراش الاقتصادية الأخرى سالفة الذكر، وكل ذلك في إطار تكاملي بنّاء وتشاركي يحتفي بالجميع ولا يقصي أي طرف.

وتبقى هذه في النهاية مجموعة مختارة من التصورات المختصرةضمن جملة من التدابير الكثيرة التي تستدعي من الفاعلين المحليين الإلمام بها واستحضار راهنيتها وسلم أولوياتها، بغية الوصول إلىنموذج اقتصادي إقليمي بالمدينة ينتشلها مما هي فيه ويحقق جزءا من ذلك التغيير الإيجابي الذي تنتظره ساكنتها.

*عمر الراجي / باحث في الاقتصاد