تكثّف الرباط، خلال الفترة الأخيرة، تحرّكاتها الدّبلوماسية في العاصمة الإيطالية روما، في إطار مقاربة عملية تستند إلى توظيف الشّراكات الاقتصادية كرافعة للتّأثير السّياسي، وذلك في سياق إقليمي ودولي يشهد تحوّلات متسارعة في موازين النّفوذ وإعادة ترتيب الأولويّات داخل الفضاءيْن الأوروبي والمتوسّطي.
وتندرج هذه الدّينامية ضمن قراءة مغربية أوسع للتّحوّلات الجارية داخل الاتّحاد الأوروبي، ولاسيما عقب صدور قرار مجلس الأمن رقم 2797، الذي جدّد التّأكيد على أولويّة الحلول الواقعية والعملية للنّزاع الإقليمي حول الصّحراء، معزّزًا بذلك الزّخم الدّولي الدّاعم للمبادرة المغربية للحكم الذّاتي.
ووفق معطيات أوردتها تقارير متخصّصة، من بينها نشرة “أفريكا إنتلجنس”، فإنّ التّحرّك المغربي تجاه إيطاليا يقوم على إعادة صياغة العلاقة الثّنائية انطلاقًا من منطق المصالح المشتركة، بعيدًا عن أي مقاربة تصادمية. وتدرك الرباط أنّ روما، رغم متانة التّعاون الاقتصادي بين البلدين في مجالات الصّناعة والطّاقات المتجدّدة والهجرة النّظامية والبنية التّحتية، ما تزال تعتمد قدرًا من التّحفّظ السّياسي بخصوص ملف الصّحراء، مفضّلةً الإبقاء على موقف غير محسوم مقارنة بدول أوروبية أخرى اتّخذت مواقف أكثر وضوحًا خلال السّنوات الماضية.
ومن هذا المنطلق، تراهن الدّبلوماسية المغربية على توسيع حضورها الاقتصادي والاستثماري في السّوق الإيطالية، ليس باعتباره هدفًا مستقلاًّ، بل كأداة لإبراز الفارق بين كلفة استمرار الغموض السّياسي والمكاسب التي يمكن أن تتيحها شراكة استراتيجية واضحة وطويلة الأمد.
وتشير المعطيات ذاتها إلى أنّ المغرب يسعى إلى إقناع إيطاليا بأنّ موقعها داخل الاتّحاد الأوروبي، ودورها في حوض المتوسّط، يفرضان الانخراط في التّوجّه الجماعي المتنامي الدّاعم لمبادرة الحكم الذّاتي، التي باتت تحظى باعتراف واسع باعتبارها الإطار الأكثر جدية ومصداقية لتسوية النّزاع المفتعل، خاصّةً في ضوء القرار الأممي الأخير.
في المقابل، يُعزى جانب من التّردّد الإيطالي إلى ارتباط روما المتزايد بالجزائر في مجال الطّاقة، ولا سيما منذ اندلاع أزمة الطّاقة الأوروبية في أعقاب الحرب في أوكرانيا، حيث عزّزت إيطاليا تعاونها مع الجزائر لتأمين إمدادات الغاز، وهو ما انعكس على مقاربتها السّياسية في المنطقة المغاربية.
هذا الوضع دفع صنّاع القرار في روما إلى اعتماد سياسة توازن حذر، تقوم على تطوير العلاقات الاقتصادية مع المغرب، مقابل تفادي خطوات سياسية قد تُفسَّر على أنّها انحياز واضح للرباط في ملف الصّحراء، حفاظًا على الشّراكة الطّاقية مع الجزائر.
غير أنّ هذه المعادلة، بحسب تقديرات متقاطعة، تبدو محدودة الأفق على المدى المتوسّط، في ظل تقلّبات سوق الطّاقة وتراجع الوزن الجيوسياسي للغاز، تزامنًا مع التّحوّل الأوروبي المتسارع نحو الطّاقات المتجدّدة. وفي المقابل، يقدّم المغرب نموذجًا قائمًا على الاستقرار المؤسّساتي، وتنويع الشّراكات، والانخراط في مشاريع هيكلية ذات امتداد إقليمي وقارّي، ما يعزّز جاذبيّته كشريك استراتيجي موثوق.
وفي هذا السّياق، يبرز تساؤل حول قدرة إيطاليا على الاستمرار في ازدواجية الموقف، أو ما إذا كانت ستلتحق بالاتّجاه الأوروبي المتنامي الدّاعم لسيادة المغرب على صحرائه في إطار الحكم الذّاتي، أسوةً بدول وازنة مثل فرنسا وإسبانيا وألمانيا والبرتغال وهولندا، التي خلصت، بدرجات متفاوتة من الوضوح، إلى أنّ استقرار الضفّة الجنوبية للمتوسّط يمر عبر تسوية نهائية لهذا النّزاع.
ويؤكّد المغرب، في هذا الإطار، أنّ الرّهان لا يقتصر على الضّغط الاقتصادي وحده، بل يقوم على مقاربة شمولية تمزج بين الدّبلوماسية السّياسية والحضور الاقتصادي وبناء شراكات متعدّدة المستويات. فالرباط، بحسب هذا التّوجّه، لا تسعى إلى موقف رمزي من روما، بل إلى خيار سياسي منسجم مع التّحوّلات الدّولية، ومع واقع أنّ مبادرة الحكم الذّاتي باتت تشكّل الأرضيّة العملية الوحيدة القابلة للتّنفيذ، انطلاقًا من قناعة مفادها أنّ كلفة استمرار الغموض ستتجاوز، في نهاية المطاف، كلفة الحسم السّياسي.




