في مدن الجنوب المغربي عموما يكثر المجهود الرسمي ويقلّ الفعل المدني الحقيقي.. لماذا؟ سيكون من الصعب تفكيك هذه المعادلة الإشكالية دون فهم تلك السياقات الاجتماعية المرتبطة بتحول اقتصادي عميق تشهده مجالات الجنوب منذ سنوات، أعني هنا أقاليم الصحراء ولا أعني غيرها!


إن مسلسل التشييد والمجهود الاستثماري المعتبر والذي واظبت الجهات المسؤولة على ضمان سيرورته واستدامة معطياته في الجنوب ليس وحده ما يميز هذه الفترة، إذ نرى بالتوازي معه فئاتٍ واسعة من المنظمات غير الحكومية وأخرى محسوبة بشكل أو بآخر على المجتمع المدني تنخرط في دواليب هذه السيرورة بالتماهي تارة وبالنقد تارة أخرى. المهم هو أن هنالك فعل مؤسساتي ملموس يحدث على مستوى المجال وهنالك في المقابل ردُّ فعل يتفاعل على نحو ما!

طيّب، لستُ واثقا من حجم الرضى الموجود عن مجمل هذه المجهودات الاستثمارية المبذولة والتي تؤكدها أرقام الهيئات الإحصائية على الأقل.. لست واثقا من جماهيريتها في الشارع لكني واثق تماما من أن الرأي العام ناقمٌ بشدة على دور المجتمع المدني رغم الظهور المكثف لأطيافه المختلفة في المشهد العام. يمكننا القول إذن إن الفاعل الجمعوي قد حضر في المشهد وغاب سلوكه في الواقع الملموس.. غاب بشكل فادح!


بنظرة مِنّا لمجمل تلك التجارب السيئة، والتي تتشابه فيما بينها لاسيما في سؤال الاستقلالية والجدوى، لن نجد من كل ذلك النسيج الغث غير تجارب قليلة على أصابع اليد الواحدة فعلت شيئا ملموسا في الميدان وبصمت على سلوك مدني حقيقي، نرى أثره اليوم في الواقع وتُرافِع عنه معطيات كثيرة إيجابية.

لفت انتباهي من هذه التجارب مركز تأهيل الكفاءات بالعيون Laâyoune learning center ، والذي تشرف عليه مؤسسة فوس بوكراع بشراكة مع منظمة Amideast العالمية الرائدة في مجال التأهيل والتكوين. قد تكون الأسماء الرنانة وحدها غير كافية كي تصنع شيئا إيجابيا نتوقف عنده، لكنّ الواقع هذه المرة هو من أثبت لنا وجود قيمة مضافة حقيقية تستحق التنويه!

في مركز تأهيل الكفاءات بالعيون، ومن تجربة عينية راكمتُها عن قرب، لاحظت ذلك الصدى الطيب للمركز في أوساط من استفادوا من حلقات التكوين به ومعظمهم من الشباب.. يتعلق الأمر بفئة الشباب العاطل عن العمل والذي يجد صعوبة بالغة في ولوج سوق الشغل.

أهمية ما يقدمه المركز تنبع من تقاطع برامجه مع مضامين النموذج التنموي الجديد والذي أكد على ضرورة حل معضلة البطالة المتفشية في صفوف الشباب من حاملي الشهادات داخل مجال جغرافي صاعد ومحدود ما يزال قطاعه الخاص ضعيفا وغير تنافسي. جوهر الحل الذي يقدمه مركز أميديست في العيون أو يشارك في صنعه على الأقل هو التكوين..

التكوين المهني الشامل والذي يتخذ أشكالا متعددة منها ما يستهدف الشباب في وضعية بحث عن عمل، فيعمل بالأساس على تعزيز قدراتهم الذاتية من حيث المهارات المكتسبة في عناصر اللغة والتواصل والمعلوميات والتنمية الذاتية وكذا التحسيس بأهمية المقاولة والتي تشكل المفتاح الأبرز لحل معضلة التشغيل.

من هذه البرامج أيضا ما يستهدف المقاولين الشباب فيتم التركيز على عناصر التنمية الذاتية إضافة إلى تعزيز المقومات الشخصية والمعرفية للفاعل المقاولاتي الشاب، فضلا عن اضطلاع المركز بدور المصاحبة التي تستهدف المقاولات الصغرى والصغرى جدا وترمي إلى ضمان استدامة مشاريعها وتعزيز فرص نجاحها تجاريا وإداريا.
البرامج تمتد لتشمل رّبات البيوت من الأمهات والنساء بدون تكوين عالٍ، أهمية هذا البرنامج تتجلى في دوره الاجتماعي الذي يهدف إلى إدماج المرأة في صلب التحولات التي يشهدها مجالها الجهوي، مع التركيز على تأهيلها معرفيا وصحيا وبيئيا.

بالإضافة إلى جانب التأهيل والتكوين، وما يرتبط به من أبعاد اقتصادية وتنموية واضحة المعالم، يحرص هذا المركز على تنمية الحس الإبداعي لدى ساكنة الجهة مساهما أيضا في خلق إشعاعها الثقافي المميز، والذي يستند على دعم الابداع المحلي وتشجيع المواهب وصقلها في ميادين الفنون الجميلة من رسم وموسيقى ومسرح عبر دورات تكوينية وأنشطة احتفالية ومنافسات بين الفرق والمجموعات، في انتظار أن تنضم إلى الموكب الفني عناصر أخرى من الآداب والفنون التي تُثري النقاش الثقافي وتعزز من إشعاع المركز نفسه.

من يزور هذا المركز ستلفت انتباهه أولا جودة المرفق ونظافته والذوق العالي الذي ميّز تشكيل فضاءاته والسلوك البيئي الراقي والذي يعكس السلوك المدني العام لمؤسسة مدنية قدمت مثالا جيدا للمسؤولية الاجتماعية، في انتظار أن تتسع رقعة الجمال وتزحف على مساحات أوسع من مجتمعنا المدني في الصحراء والذي نتمنى أن يكون في المستوى المطلوب.

بقلم عمر الراجي : باحث في الاقتصاد