أعادت الفيضانات العنيفة التي شهدها إقليم آسفي مساء الأحد طرح أسئلة جوهريّة حول الجاهزية الحضرية وتدبير المخاطر، بعدما أسفرت عن خسائر بشرية جسيمة دفعت السّلطات القضائية إلى مباشرة تحقيق رسمي لتحديد الخلفيّات الحقيقيّة لِما وقع، بعيدًا عن اختزال الحدث في كونه ظاهرة طبيعيّة عابرة.
ووفق معطيات رسميّة صادرة عن وزارة الدّاخلية، بلغ عدد الوفيات، في حصيلة أوّليّة، ما لا يقل عن 37 شخصًا، إلى جانب نقل 14 مصابًا إلى المستشفيات، فيما تضرّر نحو 70 منزلًا ومحلاًّ تجاريًا، وجرفت السّيول 10 سيّارات. وتعكس هذه الأرقام حجم الكميّات المطرية التي تساقطت في وقت وجيز، فوق نسيج عمراني لا تتوفّر بعض أجزائه على بنية تصريف قادرة على استيعاب التّدفّقات المفاجئة.
وبحسب السّلطات المحلّية، فإنّ المدينة شهدت أمطارًا رعديّة شديدة لم تتجاوز مدّتها ساعة واحدة، قبل أن تتحوّل إلى سيول استثنائيّة اجتاحت أحياء متعدّدة، خاصّةً بالمدينة العتيقة. وفي مثل هذه الظّروف، يكفي زمن قصير جدًّا لتحويل الأزقّة إلى مسارات مائيّة جارفة، حين تتجاوز كميّات المياه قدرة الشّبكات المصمّمة لاستقبالها.
اللاّفت في هذه الكارثة هو الارتفاع المتدرّج والسّريع في حصيلة الضّحايا. فبعد تسجيل أرقام أقل في السّاعات الأولى، تمّ الإعلان لاحقًا عن ارتفاع عدد الوفيات والمصابين، قبل أن تستقر الحصيلة المؤقّتة عند 37 وفاة، في سياق تواصل عمليّات البحث والإنقاذ. ويبرز هذا التّطوّر أهميّة السّاعات الأولى في الكوارث الطّبيعية، حيث غالبًا ما تكشف عمليّات التّمشيط اللاّحقة عن ضحايا كانوا محاصرين داخل المنازل أو جرفتهم المياه بعيدًا عن الأنظار.
واكب جهود الإنقاذ اتّخاذ تدابير احترازيّة عكست حجم الاضطراب الذي عرفته المدينة، من بينها تعليق الدّراسة بمختلف المؤسّسات التّعليمية. وأوضح المدير الإقليمي لوزارة التّربية الوطنية والتّعليم الأوّلي والرّياضة بآسفي، العلامي القريشي، أنّ القرار جاء بعد تنسيق مع السّلطات المحلّية، حفاظًا على سلامة التّلميذات والتّلاميذ، على أن يُستأنف التّعليم فور تحسّن الظّروف الجوية.
ميدانيًا، أفادت مصادر محلّية بأنّ عدّة أحياء ما تزال تعاني من آثار الغمر المائي وانقطاع بعض المحاور الطّرقية، خصوصًا بمحيط المدينة القديمة، حيث سجّلت خسائر مادية واسعة في منازل ومحلاّت بشوارع من بينها بير أنزران وأبو الذهب.
في هذا السّياق، يكتسي إعلان النّيابة العامّة عن فتح بحث قضائي أهميّة خاصّة، إذ لم يتم توصيف ما حدث على أنّه “حادث طبيعي” فقط، بل جرى التّأكيد على البحث في “الأسباب الحقيقيّة” و”الظّروف والملابسات” المحيطة بالواقعة. ويفتح هذا التّوجّه المجال لدراسة فرضيّات متعدّدة، تشمل مدى احترام ضوابط التّعمير، ووضعيّة البناء في المناطق المنخفضة أو مجاري المياه، وحالة صيانة قنوات التّصريف، إضافةً إلى جاهزيّة آليات الإنذار والتّدخّل المبكّر.
من جانبه، أوضح الخبير في المناخ والهندسة الهيدرولوجية محمد بنعبو أنّ ما شهدته آسفي يندرج ضمن سياق مناخي أوسع، يتميّز بتوالي سنوات الجفاف، ما أدّى إلى تصلّب التّربة وفقدانها قدرتها الطّبيعية على امتصاص مياه الأمطار. وأبرز أنّ هذا العامل يجعل التّساقطات القصيرة والعنيفة تتحوّل بسرعة إلى جريان سطحي قوي داخل المجالات الحضرية.
غير أنّ الخبير شدّد على أنّ التّغيّر المناخي، رغم أهميّته في تفسير الظّاهرة، لا ينبغي أن يكون مبرّرًا لحجم الخسائر، مؤكّدًا أنّ هذا المعطى معروف سلفًا، وكان يفترض أن يقابَل بسياسات عمومية أكثر صرامة، تشمل تحديث معايير التّخطيط الحضري، وتوسيع شبكات تصريف مياه الأمطار، وإحداث أحواض للاحتجاز، مع احترام المسارات الطّبيعية لتدفّق المياه.
وفي حالة آسفي، يتداخل العامل المناخي مع إكراهات عمرانية متراكمة، حيث إنّ المدينة العتيقة لم تُصمّم لاستيعاب أمطار قصوى، كما أنّ التّوسّع العمراني الحديث ضيّق على الفضاءات الطّبيعية التي كانت تشكّل متنفّسًا للجريان المائي. وعندما تُهمل هذه المسارات أو تُبنى فوقها دون صيانة كافية، تصبح الأمطار المكثّفة كافية لإحداث اختلالات جسيمة في زمن قياسي.
ويُنتظر أن يحدّد التّحقيق القضائي المرتقب ما إذا كانت الكارثة نتيجة عوامل طبيعية فقط، أم حصيلة تراكمات مرتبطة بقرارات تنظيمية وتدبيرية ساهمت في رفع منسوب الهشاشة. فبينما تنقذ فرق التّدخّل الأرواح في لحظات الأزمة، يبقى إصلاح الاختيارات العمرانية والبنيوية مسؤولية تمتد آثارها لسنوات قادمة.





