رست السّفينة الشّراعيّة الرّوسيّة الشّهيرة “كروزنشتيرن” بميناء الدار البيضاء، في زيارة بحريّة تحمل أبعادًا رمزيّة ودبلوماسيّة، تعدّ الأولى من نوعها إلى المغرب منذ أكثر من عشر سنوات، ضمن ما تسمّيه موسكو بـ”البعثة الإفريقيّة الكبرى” احتفالًا بالذّكرى الثّمانين لنهاية الحرب الوطنيّة العظمى.
ويأتي هذا التّوقّف ضمن جولة بحريّة للمركب، الذي يُعد من أضخم وأشهر السّفن الشّراعيّة في العالم، انطلقت من روسيا مرورًا بعدّة موانئ إفريقيّة، أبرزها بورت لويس، وكيب تاون، وأكادير، وصولًا إلى الدار البيضاء، محمّلة بنحو 140 طالبًا متدرّبًا من مؤسّسات بحريّة روسيّة، في إطار برنامج تكوين ميداني يروم إعداد جيل جديد من الضبّاط البحريّين.
زيارة “كروزنشتيرن” للمغرب، وفق بلاغ رسمي صادر عن وكالة الصّيد البحري الرّوسيّة والأكاديميّة البلطيقيّة لأسطول الصّيد، تهدف إلى ترسيخ أواصر الصّداقة مع المملكة، وتقديم صورة عن روسيا من خلال أدوات القوّة النّاعمة، كالتّبادل الأكاديمي والانفتاح الثّقافي، حيث فُتح المركب للزّيارات الرّسميّة والمدنيّة واستقبل ما يقارب 300 زائر.
وفي مشهد يُعبّر عن أهميّة المحطّة المغربيّة ضمن الرّحلة، استُقبل طاقم السّفينة من قبل القنصل العام الرّوسي بالدار البيضاء، إلى جانب ممثّلين عن وكالة روسريبولوفستفو، على أن تتواصل الزّيارة بلقاء رسمي مع السّفير الرّوسي المعتمد في الرباط.
مصادر دبلوماسيّة مغربيّة وصفت الرّسو بـ”الرّسالة الرّمزيّة”، مؤكّدةً أنّ موسكو توظّف رحلات تدريبيّة كهذه للتّأكيد على امتدادها البحري، وكسر عزلتها الغربيّة، والتّقرّب من شركاء محتملين في إفريقيا والمغرب العربي، عبر تحرّكات هادئة ضمن خارطة النّفوذ في الجنوب العالمي.
وبحسب مسؤول في إدارة ميناء الدار البيضاء، فإنّ الرّسو تمّ وفق الإجراءات القانونيّة المعتادة، بالتّنسيق مع السّلطات البحريّة والأمنيّة، مع التزام صارم بالضّوابط التّنظيميّة، مؤكّدًا أنّ المركب لم ينخرط في أي نشاط سياسي أو عسكري خارج طبيعته التّدريبيّة والبروتوكوليّة.
وأكّد المصدر ذاته أنّ المغرب، المنفتح على التّعاون المتعدّد الأطراف، يستقبل بانتظام سفنًا تدريبيّة من مختلف الدّول، ما دامت تحترم سيادته وإجراءاته، مشيرًا إلى أنّ السّفينة الرّوسيّة خضعت للمراقبة وفق المعايير المعمول بها.
وتحمل “كروزنشتيرن”، التي بُنيت في ألمانيا سنة 1926 وتخضع اليوم لإشراف روسي، إرثًا تاريخيًّا يجعل من كل محطّة لها حدثًا دبلوماسيًّا عائمًا، يُعبّر عن استمرار موسكو في تعزيز حضورها الجيوسياسي من خلال أدوات رمزيّة تجمع بين التّأهيل والتّأثير.
وفي ظل التّحوّلات الدّوليّة المتسارعة، يرى مراقبون أنّ زيارة المركب إلى المغرب لا تنفصل عن إعادة رسم روسيا لتحالفاتها، ومحاولتها توسيع نطاق نفوذها بعيدًا عن الجغرافيا الأوروبيّة، في وقت تسعى فيه الرباط للحفاظ على توازناتها الدّبلوماسيّة واستقلالية قرارها الخارجي، ضمن مقاربة براغماتيّة تراعي المصالح الوطنيّة وتحوّلات السّاحة الدّوليّة.