تهفو قلوبُ المسلمين إلى فريضة الحجّ، وإلى أداء الرُّكن الخامس من أركان الإسلام، لتحقيق مقاصد العبودية لله تعالى؛ بالإمتثال لأمره، وإخلاص العبادة له، وتعظيم شعائره، وإقامة ذكره. ومن أحكام وآداب العمرة، قوله صلى الله عليه وآله وسلم : «الحَجُّ عَرَفَة»، وهو الرّكن الأعظم للحج، فمن فاته الوقوف فقد فاته الحج، لذلك يستعدُّ حُجَّاجُ بيتِ الله الحرام بهمَّةٍ عاليةٍ للوقوفِ بعرفة يوم الـ9 من ذي الحجة.
وفي مشهد مهيب وحرارة خانقة تجاوزت 42 درجة مئوية، تدفّق الحجّاج المسلمين إلى صعيد عرفات، اليوم الخميس، لأداء الرّكن الأعظم من مناسك الحج، في لحظة روحيّة تتجاوز المشقّة البدنيّة، وسط استنفار سعودي غير مسبوق لمواجهة موجة الحرّ الحارقة.
ورغم دعوات السّلطات السّعوديّة بالبقاء في الخيام خلال ساعات الظّهيرة لتفادي ضربات الشّمس والإجهاد الحراري، فضّل كثيرون صعود جبل الرّحمة أو التّجمّع عند سفوحه، حاملين مظلّات بألوان زاهية، فيما وزّعت الفرق الميدانيّة أكياس ثلج ومراوح مزوّدة برذاذ الماء على الزوّار، في محاولة لتخفيف وطأة القيْظ.
دموع وفرح بين الحجّاج
وتنقّل الحجّاج بين مشاعر مكّة تحت درجات حرارة عالية، قاصدين عرفة الذي يبعد نحو 23 كيلومتراً عن الحرم، حيث يمضون اليوم في الدّعاء وتلاوة القرآن حتّى غروب الشّمس، قبل الإنتقال إلى مزدلفة للمبيت وجمع الحصى استعداداً لليوم التّالي.
من بين الحشود، عبّرت المصريّة إيمان عبد الخالق عن فرحتها العارمة بتحقيق حلم انتظرته عشر سنوات، فيما قال الباكستاني علي، الذي حاول الحج ثلاث مرّات سابقاً: “إنّها نعمة عظيمة أن أقف هنا اليوم”. الحاج السّوري عادل إسماعيل قال بدوره إنّه خطّط للوصول باكرًا لتجنّب ذروة الحر، مؤكّداً: “سنلوذ بالخيام لاحقاً”.
خُطّة طوارئ ضخمة لدرء الخطر
في ظل استذكار المأساة التي وقعت العام الماضي حين توفي 1301 حاج بسبب موجة حر غير مسبوقة، أعدّت السّلطات السّعوديّة هذا العام خطّة وقائيّة محكمة، أبرز معالمها حشد أكثر من 250 ألف عنصر من الكوادر والإداريّين، وتنسيق جهود 40 جهة حكوميّة، فضلاً عن توسيع المساحات المظلّلة بـ50 ألف متر مربع، وتوفير أكثر من 400 وحدة تبريد.
كما تمّ توزيع مظلّات ومياه باردة ونصائح طبيّة تشمل الإكثار من شرب السّوائل وتجنّب تسلّق المرتفعات، بعد تحذير وزارة الصحّة من احتمالات الإصابة بـ”الإجهاد الحراري” نتيجة الجهد البدني المفرط في الأجواء اللّاهبة.
رقابة مشدّدة على الحشود وتطويق “الحج غير النّظامي”
تخطّى عدد الحجاج هذا العام 1,4 مليون شخص، وهو ما شكّل تحدياً إضافيًّا لإدارة الحشود، خاصّةً مع إطلاق السّلطات السّعوديّة لحملة مكثّفة لمنع دخول الحجّاج غير النّظاميّين، عبر المراقبة الجويّة بالطّائرات المسيّرة، والرّسائل النّصيّة التّوعويّة، والمداهمات الميدانيّة.
وبحسب مسؤول في وزارة الحج، فإنّ هذه الإجراءات ساهمت بشكل ملحوظ في تقليل التجمّعات العشوائيّة في المشاعر المقدّسة، بعدما تكرّرت حوادث التّدافع في مواسم سابقة، أبرزها في 2015 حين توفي قرابة 2300 حاج في حادث مأساوي.
اِقتصاد الحج .. بين التّنظيم والرّبح
يُعد موسم الحج مصدرًا اقتصاديًّا مهمًّا للمملكة، إذ يُدر مليارات الدّولارات سنويًّا، ويُعد ركيزة من ركائز رؤية السّعوديّة السّياحيّة والدّينيّة، التي تراهن على تحسين الخدمات ودمج التّقنيّات الحديثة لضمان موسم أكثر أمانًا وتنظيمًا وسلاسة.
“الحجُّ عرفة” .. سبب التّسمية واقتران الزّمان بالمكان
تُعرفُ منطقة عرفة بأنّها تقع عند جبل صخري طوله تقريباً 300م يقع بين مكّة المكرّمة والطّائف، وتبعد عن الحرم المكي نحو 23 كم، وعلى بُعد 10 كم من منى، و 6 كم من مزدلفة، وفي عرفة الحج الأكبر والوقفة التي هي ركن من أركان الحج لقول النّبي -صلى الله عليه وسلم-: (الحجُّ عرفة)، وفي وسط الجبل شاخص إسمنتي طوله 7م يميّزه عن باقي الجبال.
سُمّيَت عرفة بهذا الإسم نسبةً إلى الجبل الذي يُقال إنّ النّاس كانوا يتعارفون فيه، وقيل أيضاً سُمِّيَ بذلك لأنّ آدم وحواء عندما هبطوا من الجنّة التقوا فيه فعرفها وعرفته، وهناك روايات أخرى تدل على نفس المعنى المخصوص بالإسم.
يوم عرفة يوم يجتمع فيه شرف المكان والزّمان، في لحظات إيمانيّة تعُم فيها رحمة الله، وهو اليوم التّاسع من ذي الحجّة، ومن أفضاله كثرة عتق الله لعباده من النّار، قال -صلى الله عليه وسلم-: (ما من يومٍ أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النّار من يوم عرفة). وهو يوم يُباهي فيه الله -عزّ وجل- ملائكته بما يصنع أهل عرفة قال -صلى الله عليه وسلم-: (إنّ الله يُباهي ملائكته عشيَّةَ عرفة بأهل عرفة، فيقول: انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً). كما أنّ الدّعاء فيه خير الدّعاء وأعظمه، قال -صلى الله عليه وسلم-: (خيرُ الدّعاء دعاء عرفة).