بين الموقع الجغرافي والذاكرة التاريخية والتطلعات المستقبلية، يجتهد صانع السياسة الخارجية التركية في صياغة سياسة تحقق أهداف الدولة التركية بالخارج، آخذاً بعين الاعتبار حجم المنافسين ومدى قدرتهم ومواردهم، واضعاً في خطواته آليات مواجهة الأعداء الموجودين خارج الحدود، والذين يحاولون استنزاف الدولة التركية.

وكذلك إدراك وزن المنظمات الدولية الموجودة في المنطقة، وطبيعة ميزان القوى في منطقة جغرافية متعددة القوميات والمذاهب، وفي كيفية إقامة العلاقات مع أطراف متناقضة فيما بينها.

ثم الذهاب إلى ما هو أبعد من حدود المنطقة، إلى العالمية في السياسة الخارجية، وهو ما يزيد من المسؤولية لدى صانع السياسة الخارجية التي تتمتع بمجموعة من الخصائص أهمها: استخدام القوة الناعمة والقوة الصلبة، والمجال الحيوي، والقومية، والجغرافيا، والاهتمام بقضايا العالم الإسلامي، والبراغماتية، وتنوع الوجهات الدولية.

استخدام القوة الناعمة والقوة الصلبة: تستخدم السياسة الخارجية التركية القوة الناعمة في تنفيذ أجنداتها الخارجية، لا سيما في المنطقة العربية؛ لتعزيز تقاربها مع شعوب المنطقة، ما يجعل من الحضور والدور التركي مرحَّباً به؛ لما تقوده هذه العملية الناعمة من إظهار الثقافة التركية المنسجمة مع ثقافة شعوب المنطقة العربية، وإزالة الغبش الذي يعمل محور الثورة المضادة على ترويجه، ولعل قيام باقة من ممثلي مسلسل “قيامة أرطغرل” بمرافقة الرئيس التركي، طيب رجب طيب أردوغان، في إحدى جولاته الخلييجية صورة لذلك.

وفي مجال القوة الصلبة، عملت السياسة الخارجية على استخدامها؛ وذلك لحماية الأمن القومي لتركيا، عبر عمليتي “درع الفرات” و”غصن الزيتون” الجارية ضد التنظيمات الإرهابية.

ثم حضور الوعي الاقتصادي والعسكري في السياسة الخارجية نحو الوجود خارج الحدود، وذلك عبر إقامة القواعد العسكرية، حيث يسهم بناء القواعد في إظهار مهارة في القدرة على التحرك خارج حدود الوطن وتبيين القوة التركية؛ ومن ثم تشكل صورة أكثر حيوية تجاه حجم النمو التركي، الأمر الذي يمنحها مكانة تمكنها من لعب دور أكبر في القضايا الإقليمية وبما يعزز من تطلعاتها.

المجال الحيوي: في الحديث عن المجال الحيوي هنا، نقدم تعريفاً يختلف عن التعريف أو التصور الذي قدمته المدرسة الألمانية في الجغرافيا السياسية، والذي غلب عليه طابع التمدد الجلدي للدولة، نقدم تعريفاً يضبط حركة المجال الحيوي بثلاثة عناصر؛ وهي: الذاكرة التاريخية والقومية، والتنوع العرقي، وبناء على هذه العناصر الثلاثة نجد أن لتركيا مجالاً حيوياً يغطي وسط آسيا والقوقاز والبلقان، الأمر الذي يعطي لأنقرة فرصاً لتعزيز وجودها وإقامة نفوذ لها في مناطق ما تزال تعتبر من أكثر المناطق حساسية في أوراسيا، خاصة أنها تشكل أحد أهم مصادر الطاقة العالمية والقريبة من البرَّين الروسي والصيني.

وتعتبر آسيا الوسطى من المناطق الخاضعة للتنافس بين لاعبين دوليين كالولايات المتحدة وروسيا والصين وإيران؛ بسبب موقعها الجغرافي ومواردها.

القومية: حيث إن الروح القومية التي يعيشها الشعب التركي تعطي صانع السياسة الخارجية فرصة للتحرك خارج الحدود لتنمية مصالح الدولة في الخارج، والعمل على حماية وضمان وجود الدولة التركية من التهديدات التي تتعرض لها بفعل الحروب الدائرة في المنطقة، كما أن البعد القومي يعطي القيادة مجالاً أوسع في التحرك والتأثير في القضايا الإقليمية، ونفَساً أقوى للمطالبة بإحداث تغيير في المنظومة الدولية.

امتياز الجغرافيا: الجغرافيا هي من أكثر محدِّدات السياسة الخارجية تأثيراً، وتكاد تحكم على سلوك الدولة الخارجي، وتكاد تكون السياسة الخارجية أيضاً بنْت الموقع الجغرافي، والجغرافيا حكماً للتصورات الإقليمية والدولية عند صانع القرار، فموقع تركيا من الجغرافيا السياسية جعلها قريبة من أوروبا وآسيا وإفريقيا، ما أعطاها قوة في مواجهة منافسيها بالمنطقة وخصومها. فهي صاحبة مفاتيح ممر البحر الأسود على المياه الدافئة.

وهي صلة وصل بين أوروبا والعالم العربي، وتمدُّد أراضيها نحو القوقاز، جعلها توازن روسيا في تلك المنطقة، وبذلك يستطيع صانع السياسة الخارجية التركية إقامة نفوذ له، يمكن من خلاله التأثير والتحكم في سلوكِ مِن حوله.

الاهتمام بالعالم الإسلامي: تعير تركيا اهتماماً شديداً لقضايا العالم الإسلامي، وقد ظهر ذلك من خلال تحركها لنجدة مسلمي الروهينغا في إقليم أراكان بميانمار على المستويَين الدبلوماسي والإنساني. وكذلك تحرُّكها على المستويَين الإقليمي والدولي في مواجهة القرار الأميركي، المتمثل بالاعتراف بالقدس عاصمةً للاحتلال الاسرائيلي ونقل السفارة الأميركية إليها، وذلك على عدة خطوات؛ الخطوة الأولى كانت بتنظيم قمة لمنظمة التعاون الإسلامي في إسطنبول، ثم الحشد الدولي الذي أفضى إلى إقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً برفض إحداث أي تغيير على الواقع القانوني للقدس.

فاهتمام تركيا بشؤون العالم الإسلامي يعطيها دوراً على المستوى الدولي يمنحها مكانة بين الدول الكبرى، تستطيع أنقرة من خلاله لعب دور فعال في تحقيق مصالحها ومصالح العالم الإسلامي معاً، ويساهم ذلك في تعزيز الحضور التركي بالدول الإسلامية.

البراغماتية وتنوُّع الوجهات الدولية: تمتاز السياسة الخارجية التركية بالبراغماتية الإيجابية، التي تستطيع الانتقال من حال إلى حال بأقل الخسائر وبما يسهم في تحقيق أعلى الأرباح، وكيفية إعادة أو ترتيب العلاقات مع الأطراف المختلف معها حول أزمات المنطقة، العلاقة مع روسيا وإيران نموذجاً. ويلاحظ في الفترات الحالية عودة العلاقات مع ألمانيا رغم التنافس الاقتصادي الحاد بينهم.

وكذلك، تتميز السياسة الخارجية في تنويع وجهاتها الدولية بالذهاب إلى القارة الإفريقية من جهة، وإلى منطقة الخليج العربي من جهة أخرى، ونحو منظمة شنغهاي، فلم تقتصر في توجهها نحو الاتحاد الأوروبي فقط.