يكاد يجمع الباحثون اليوم بأن الصحراء تعيش انبعاثا جديدا لحركة ثقافية علمية غير مسبوقة يقودها بعض الفاعلين المثقفين تحت يافطة المجتمع المدني، بل لعلنا قد نجزم أنها في تزايد وتصاعد مستمر وبطاقات متجددة، وقد سجلت هذه الفعاليات المدنية انجازات إيجابية لابأس بها على الصعيد المحلي والوطني، وفي مجالات عدة نذكرها من على سبيل المثال المجال الثقافي الإشعاعي، والمجال التربوي، الذي يهدف إلى الرعاية والاهتمام بالنشء، والمجال الرياضي، والمجال الإحساني، والمجال الحقوقي..


ومما نرمقه متفائلين في الآونة الأخيرة أن هذه الحركة الثقافية العلمية تركت أثرا طيبا في نفوس فئات عريضة من المجتمع، وهذا ما يفسر حضورها الوازن لأغلب التظاهرات العلمية والثقافية التي تنشطها فعاليات المجتمع المدني في الصحراء، وربما سبب ذلك يرجع إلى أن الفاعلين الذين يقودون هذه الحركة الثقافية هم نشطاء من البيئة الصحراوية، مما أكسبها تعاطفا كبيرا وشرعية مباركة من متتبعيها.


لعل المجتمع المدني اليوم صار قناعة تترسخ يوما بعد يوم، وربما أضحى بديلا من بين البدائل التنموية في التغيير والنهوض بالشأن المحلي في الكثير من الأصعدة والمجالات الحيوية. ولاشك أن هذه الطلائع التي باتت تضع لها موضع قدم كقطاع ثالث إلى جانب القطاع العام والخاص. استطاعت بتظافر الجهود والشراكة مع الفاعلين والمنتخبين والمؤسسات الوصية أن تحقق نتائج محفزة في غاية الأهمية، دفعت المزيد من الفئات المثقفة إلى الانخراط نسبيا تحت لواء المجتمع المدنية.

المجتمع المدني في الصحراء: التساؤلات والانشغالات

هذه المعطيات تدفعنا إلى طرح بعض التساؤلات عن أسباب ودواعي هذه الحركة الثقافية العلمية، ومن بين تلك الأسئلة:
هل هذه الحركة الثقافية العلمية موجة عابرة حفزتها مثيرات خارجية أم قناعة راسخة تنم عن وعي بأهمية الانخراط في العمل الجمعوي؟ هل منح فضاء المجتمع المدني مساحة كافية من الحرية المقننة، ومجالا خصبا لتفريغ الطاقات الكامنة التي لم تتحها بعض الفضاءات الأخرى؟ هل وجد الفاعلون في المجتمع المدني الحيز الأرحب لإطلاق ابداعاتهم وأفكارهم وآراءهم دون معوقات تحد من إنجاز تصوراتهم واقتراحاتهم على أرض الواقع؟ هل التعثر الذي تعرفه الصحراء في مجال التنمية العلمية كان عاملا في ظهور هذه الحركة الثقافية العلمية؟ أم أن التطور التكنولوجي وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي وبروز بعض الصفحات الإعلامية الالكترونية المحلية دفعت بظهور هذه الحركة الثقافية العلمية؟
قد لا يهمنا بالدرجة الأولى الإجابة عن كل هذه الاسئلة، بقدر ما يهمنا طرح المزيد من مثيلها بشكل أعمق، فقد تحمل هذه الأسئلة اجابات بعضها البعض تلميحا ضمنيا أو تصريحا إذ ما استوعبت بمفهوم المخالفة. إننا نتحدث عن مجتمع مدني حديث الولادة حديث الانخراط في الشأن المحلي والإقليمي، فما هي الحلقة المفقودة التي وجدها الفاعلون في المجتمع المدني دون غيره؟ قبل الشروع في الإجابة عن هذا السؤال، لابد أن نسجل عدة ملاحظات عن طبيعة مجال المجتمع المدني:
نعني بالمجتمع المدني كل المنظمات غير الحكومية كالجمعيات ذات البعد (الثقافي والإحساني والتكافلي والرياضي والاجتماعي والاقتصادي..)والمراكز البحثية والنقابات المهنية والحقوقية..فكل مؤسسة خاصة تعمل بعيدة خارج سلطة الدولة وإمرتها أو أي حزب سياسي قد يؤثر على سيرها وأهدافها المسطرة، اللهم ما يؤطرها من قانون تنظيمي فهو يحدد صلاحياتها ويراقب أنشطتها ومدى تطابقها مع دستور البلاد.
المجتمع المدني هو الفراغ المكاني الذي يقع بين سلطة الانتماء للأسرة والدولة بسبب القرابة أو الانتماء الجغرافي، وكلاهما مجال ينعدم فيه الاختيار بل يجد المرء نفسه منتميا إليهما وجوديا ومكانيا وزمانيا. في حين أن المجتمع المدني يكون الانتماء له نابع من حرية الاختيار القائم على فكرة أو هدف ما.
المجتمع المدني رأسمال اجتماعي وبطبيعة الحال لن يكون بديل عن الدولة بل مكملا لعملها ونشاطها وتنخرط في برامجها.
المجتمع المدني ليس نظاما تراتبيا يفرض انتقال القرارات من الهرم إلى القاعدة بل العمل فيه يقوم على مبدأ التشاركية والمساواة واحترام الرأي الآخر.

المجتمع المدني: المفهوم والمقومات.

من خلال هذه الملاحظات يمكن أن نعرف المجتمع المدني بأنه: هيئة اجتماعية معقدة مستقلة غير انتمائية تؤطرها رؤية مشتركة، سمتها العمل الجماعي و الإرادي الذي يخدم الإنسان.
ونرصد من خلال هذا التعريف أن المجتمع المدني يرتكز على ست مقومات أساسية، وأن أي تجربة اجتماعية ناجحة لابد أن تتوفر فيها هذه المقومات، مما يقتضي منا بسط الكلام فيها أكثر:
الهيئة: هي التي تضفي على العمل الصبغة القانونية وتتيح لها امكانية تقمص الصفة المعنوية التي تمكنها من نسج علاقات مع مختلف أطياف المجتمع، قطاعا عاما أو خاصا داخليا أو خارجيا.
العلاقة المعقدة: يشير هذا الوصف إلى النزعة التي يتسم بها العنصر البشري باعتباره كائنا معقدا قد يتطلب آليات محددة للتواصل والإقناع.
الرؤية: ونعني بها كل الأهداف المسطرة التي يتوخى الفاعلون تحقيقها آنيا أومستقبليا.
الإرادية: “أي يقيمها الناس وينخرطون فيها، أو يحلونها، أو ينسحبون منها، وذلك على النقيض تماما من مؤسسات المجتمع البدوي التي هي مؤسسات طبيعية يولد الفرد منتميا إليها مندمجا فيها ولا يستطيع الانسحاب منها كالقبيلة والطائفة”. كما تتضمن هذه الإرادية مبدأ التطوع وهو الصفة الوحيدة القادرة على الإلزام المعنوي الذي يفرض الفاعل فيها إلى بذل المزيد من الجهد والعطاء.
العمل الجماعي: ونقصد به بأن رأي الاثنين أفضل من رأي الواحد ، ورأي الثلاثة أفضل من رأي الاثنين، فكلما درست الهيئة عملا ما بشكل جماعي كان مصانا ومعضدا بغيره من الآراء مما يكسبه مصداقية عملية كبيرة، وهذا ما تجسده الآن الاجتهادات الجماعية مثل القضاء الجماعي والاجتهاد الفقهي الجماعي المتمثل في المجامع الفقهية والمجامع اللغوية والمراكز البحثية التي تشتغل في إطار جماعي تشاركي.
يخدم الإنسان: ونعني بذلك أن مؤسسات المجتمع المدني هي هيئات غير ربحية، ولا يرجى منها تحقيق مصالح شخصية أو الوصول إلى سدة السلطة أو المناصب المرموقة..
ونعود للإجابة عن سؤال: ما هو الشيء المفقود الذي وجدته الفئات الشبابية المثقفة في المجتمع المدني دون غيره؟
عرف المغرب مجموعة من المؤسسات التقليدية الشعبية ذات الصلة والشبيهة بالعمل الجمعوي المستقل منذ القديم انبجست من رحم المجتمعات القبلية مثل: آيت الأربعين والكتاتيب القرآنية والزوايا الدينية والمؤسسات الوقفية التي تخدم المجالات الاجتماعية، فكان لهذه الهيئات دور كبير في تأطير جهود المجتمع وتوجيه اختياراته التربوية والعلمية خارج سلطة المخزن، بل كان هذا الأخير يستمد قوته وسلطته من مدى تفاعله وعلاقته التي يقيمها مع هذه الهيئات المجتمعية. وفي هذا الصدد يقول محمد عابد الجابري:” إن المجتمع المغربي إلى حدود الثلاثينيات من هذا القرن، كان مجتمعا تؤطره القبيلة والزاوية. لقد كان هناك إطاران اجتماعيا وحيدان ومتداخلان ينظمان أفراد المجتمع المغربي، هما القبيلة والطريقة الصوفية أو الزاوية. أما الدولة فقد كانت جهازا فوقيا يستمد سلطته وفاعليته بل ووجوده من نوع العلاقة التي يقيمها مع الإطارين المذكورين”.
كما يحتل مفهوم المجتمع المدني مكانة كبيرة في الكتابات الغربية من حيث “مضامينه وأدواره المختلفة فهو يمكن أن يحد من سلطة الدولة أو مواجهة هيمنة الدولة من خلال النقابات والأحزاب المُعبِّرة عن الطبقات المُستغلَّة لتحقيق التغيير بطرقٍ سلمية كما يقول غرامشي (ت1937م)”.
وتبعا لما سبق “يعتبر المجتمع المدني في عصر العولمة “جيشا” عاتيا يمكنه تحقيق ما عجزت عن تحقيقه القطاعات الحكومية في أقدر الدول وأكبرها. ذلك لما يملكه هذا المجتمع من قدرات وطاقات ووسائل لا حصر لها، ناهيكم عن خزان الإبداعات والمواهب التي يزخر بها”
يمكننا أن نستشف من هذا الطرح أن ما وجدته الفئات المثقفة في المجتمع المدني هو أمران اثنان: المشاركة في تدبير الشأن المحلي والسلطة المعنوية التي تمنحها هذه التمثيلية للمجتمع المدني من طرف المجتمع، حيث مكنها هذان العاملان من تفعيل وتنزيل التصورات والآراء النابعة عن الانشغالات ذات الطابع الخصوصي التي تشغل بال الفاعلين الجمعويين في المنطقة، بدل الانتظار والتوقف إلى أن تفد الاصلاحات والمشاريع التنموية من المصالح المركزية للدولة ويتم إنزالها دون أدنى استشارة أو تداول مع الشأن المحلي.

استنتاجات ومقترحات:

ومجمل القول إن للمجتمع المدني دور كبير في العملية التنموية المحلية ولا يتم تفعيل هذا الدور إلا بانفتاح المؤسسات الوصية على أطيافه وإشراكه في هذه العلمية التنموية، وتمكينه من السبل والاجراءات القانونية التي تعطيه الحق في مزاولة مهامه وتفعلي دوره المنوط به. لذلك:
لابد من ترسيخ ثقافة العمل الجمعوي التطوعي، والدفع بالمزيد من الطاقات رجالا ونساء إلى الانخراط في فكرة المجتمع المدني الهادف.
يستحسن التركيز على القضايا المحورية الملحة آنيا مثل قضايا: التعليم والتربية والصحة وحقوق الإنسان..
للمجتمع المدني دور كبير في الوقاية من التفكك الأسري وصيانة المجتمع من الظواهر الاجتماعية السلبية وتفشي الصراعات العرقية والإثنية.
يمكن للمجتمع المدني أن يجدد بناء الثقة من جديد بين الدولة والمجتمع التي شابتها سياسة بعض الأحزاب السياسية أو المجالس المنتخبة ويبني حوارا أكثر ثقة وانفتاحا، قد يستغرق ذلك البناء وقتا طويلا لكنه قد يتحقق إذا ما أنجزت أعمال إيجابية على رأض الواقع.
حبذا لو تم الإعلان عن القطيعة مع مرحلة الكم التي تشهدها الساحة الجمعوية في الصحراء والتي أنتج عنها تأسيس الآلاف من الجمعيات المدنية والتي ربما تنقصها الكثير من الجدة والفاعلية، بل لابد من الانتقال من المرحلة العشوائية إلى المرحلة التنظيمية التي تتغيى التجويد في العمل الجمعوي والتركز على الحضور (الكيفي لا الكمي).
يجب الاهتمام بالمصادر التمويلية الخاصة وعدم الاكتفاء بالموارد التي تقدمها الدولة سنويا والتي غالب ما تكون شحيحة وربما تعتبر من معوقات العمل المدني فضلا عن ما تفرضه من تبعية قد تضعف من العمل الجمعوي وتفرغه من محتواه، لذلك لابد من التفكير في التمويل الذاتي بإنشاء مشاريع ذاتية تكفل عدم توقف سير الأنشطة اليومية داخل العمل الجمعوي.
يلزم التفكير في توحيد الجهود والتنسيق بين هيئات المجتمع المدني تلافيا للصراع حول الأدوار أو التحزب وراء جهات معينة.
وفي الختام يمكن القول: يُتوقع أن يصبح المجتمع المدني هو المرشح الأبرز والقادر على قيادة المرحلة التنموية التي تعيشها الصحراء وذلك لثلاثة أسباب: أولها، توفرها على نخبة مثقفة لا بأس بها صارت تتشكل في الآونة الأخيرة من مختلف الحقول المعرفية. ثانيها، معرفتها بخصوصية المنطقة وبيئتها وما تحتاجه مرحليا واستشرافيا. ثالثها، استمد العمل الجمعوي في الصحراء أسباب نجاحه وقوته من وعي المجتمع بأهمية ودور المجتمع المدني في إحداث تنمية اجتماعية وثقافية واقتصادية..مما أضفى عليه شرعية علمية أكسبته احتراما وتقديرا كبير في المنطقة.