هذه القصّة الخبريّة تأتي في إطار الرّؤية التّحريريةّ الجديدة لمنصّة “أخبار تايم”، التي تسعى إلى توسيع زوايا السّرد الصّحفي عبر دمج أصوات الجيل الصّاعد وإتاحة مساحة أكبر للرّؤى الشابّة في تناول القضايا الوطنيّة. وقد أُنتجت هذه القصّة بتعاون مع أربعة طلبة من جيل «Z»، ساهموا في إعدادها وتصوير جزءٍ من مادّتها البصريّة، وذلك بعد تأطيرهم من طرف فريق “أخبار تايم”، إيماناً من المنصّة بأنّ الاستثمار في قدرات الشّباب هو الطّريق الأمثل لتجديد لغة الإعلام وابتكار أشكال جديدة لرواية الأحداث التّاريخيّة. العمل الذي بين أيديكم، يعكس رؤيتهم الخاصّة للمسيرة الخضراء، كما اختاروا هم أن يروها.
لم يكن مساء ساحة المشور في ذلك اليوم شبيهاً بباقي الأيّام. وسط المارّة وصوت خطوات الزوّار، كانت أربعة ظلال شابّة تقترب من بعضها بثقةٍ هادئة. شيماء، كلثوم، صفوان وإسماعيل… أربعة شباب من جيل «Z»، جمعهم مسارٌ دراسيٌّ واحدٌ في شعبة الإعلام، وجمعتهم أيضاً رغبةٌ في أن تكون لهم طريقةٌ خاصّة للاحتفاء بذكرى المسيرة الخضراء لسنة 2025.
رؤى مختلفة… وصوتٌ وطنيٌّ واحد
جلسوا في دائرةٍ صغيرةٍ تحت شمسٍ خفيفة، ووضع إسماعيل حاسوبه المحمول في المنتصف. انطلقت أولى لقطات التّقرير الذي أنجزوه حول أحد موظّفي السّكك الحديدية المشاركين في مسيرة 1975. كانوا يشاهدون بتركيزٍ يشبه الإصغاء إلى شهادةٍ تاريخيّة تُروى لأوّل مرّة.
شيماء، الجالسة بهدوئها المعتاد، لم تُخفِ تأثّرها. كانت تتأمّل الوجوه القديمة على الشّاشة كما لو أنّها تقرأ في عيونها ما تَعجز الكلمات عن قوله. بالنّسبة إليها، القوّة الحقيقيّة في المسيرة الخضراء لم تكن فقط في الأعداد، بل في ذلك الصّمت الممزوج بالإصرار… صمت يشبه صمتها هي.
كلثوم نزعت سمّاعاتها ببطء، وكأنّها تعود من عالمها الدّاخلي إلى عالمهم المشترك. موسيقاها التي ترافقها في كلِّ مكان تُشكّل لها ملجأً أكثر ممّا تُشكّل هواية. لكنّها تعلم أنّ صوتها — مهما بدا خافتاً — جزءٌ من الحكاية. حين تحدّثت، حمل كلامها مزيجاً من التّردّد والعمق: “المسيرة ماشي غير حدث… هي إحساس كيبقى، وكل واحد منا كيعبّر عليه بطريقتو.”
صفوان، الميّال إلى الرّسم الذي خبر دلالات ألوانه، كان يرى في المسيرة درساً قديماً يتكرّر في حياته. تذكّر أيّاماً قاسيةً لملامح مشهدٍ لم يُرسم، وواقعًا حديثًا فتح له أحلاماً جديدة. بالنّسبة إليه، كانت المسيرة انتقالاً من صحراء الأمس إلى صحراء اليوم التي تغيّرت بنيتها التّحتيّة، وصارت قادرةً على احتضان أحلام شباب يشبهونه دون أن تكون مجرّد لوحة أو رسمةٍ باهتة.
أمّا إسماعيل، فكانت عيناه مركّزتيْن على شاشة الحاسوب. يرى في كلِّ مقطعٍ فرصةً لتحويل التّاريخ إلى لغةٍ يفهمها جيل يعيش على الصّورة والفيديو. همس قائلاً: “المسيرة اليوم ما بقاتش تتحكى غير بالكلمات… خاصها تتشاف، وتتلمس، وتتعاود بطريقة اللّي كتجذب الجيل ديالنا.”
بدأ النّقاش يشتدّ، ليس خلافاً، بل اختلافُ رؤى يثري الفكرة. تبادلوا الآراء حول كيفيّة تقديم التّقرير، حول معنى المسيرة اليوم، وحول السّؤال الذي يرافق جيلهم دائماً: كيف نفهم نحن حدثاً لم نعشه؟ وكيف ننقل رمزيّته بلغةٍ ليست لغة آبائنا؟
حوارِ الأجيال ومسيرة الأنامل
ومع مرور الوقت، بدأت الرّؤية المشتركة تتشكّل… المسيرة الخضراء، كما فهموها، لم تعد فقط مشياً على الأقدام. صارت عملاً يمتدّ عبر الأنامل التي تكتب، تصمّم، تعدّ المونتاج، وتحوّل التّاريخ إلى محتوى بصري عصري. مسيرة جديدة لا تسير فوق الرّمال، بل فوق شاشاتٍ مضيئة تحمل ذاكرة أجيالٍ كاملة.
من ذاكرة وطن إلى إبداع جيل .. الخيطُ الذي لا ينقطع
في المشهد الأخير، ظهر الأربعة يجلسون أمام الحاسوب من جديد، يشاهدون النّسخة النّهائيّة من تقريرهم. كانوا يبتسمون. كلُّ واحدٍ فيهم يعرف الآن أنّ له مكاناً في هذه الحكاية. وأنّ روح المسيرة لم تُغلق أبوابها في 1975… بل انتقلت إلى جيل آخر، جيل يعيش بلغته، ويعبّر بأدواته، لكنّه يحافظ على الخيط ذاته الذي يربط الماضي بالحاضر.
لقد انتهى التّقرير، لكنّ المسيرة لم تنتهِ بعد… فمسيرة الأقدام التي صنعت التّاريخ، صارت اليوم “مسيرة الأنامل” التي تحفظه وتعيد روايته للعالم.




