كما العادة لم يخلف جلالة الملك محمد السادس موعده مع التاريخ، وكما كان سباقا لاحتواء احتجاجات حركة 20 فبراير والإنصات للشارع المغربي خلال فترة كانت الأصعب في مسار حكم العاهل المغربي، وقبلها بجرأته الكبيرة في إطلاق مصالحة وطنية شاملة مع المعتقلين السياسيين والمعارضين في عهد الحسن الثاني عبر هيئة الانصاف والمصالحة، والثورة التي قادها جلالته لإصلاح منظومة العدالة ومنح المرأة المكانة التي تستحق بتعديلات جوهرية وتاريخية في مدونة الأسرة…

أنصت مرة أخرى لشعبه وكان في مستوى انتظاراتهم ومطالبهم العادلة عبر خطاب تاريخي بامتياز يشكل خارطة طريق لبناء مغرب ما بعد كورونا ويؤسس لتعاقد اجتماعي جديد بين الملك وشعبه، في وقت لا زالت الأحزاب السياسية سيما المدبرة منها للشأن العام متخلفة عن هذه المواعيد الكبرى للأسف.

 

خطاب هام الجميل فيه أنه لا ينظر للوراء ولا يتباكى على تبعات وآثار الأزمة (باستثناء التوجيهات السامية بضرورة الالتزام بالإجراءات المعمول بها للحفاظ على صحة المواطنين والمواطنات)  بقدر ما يرى بعين متفائلة ومتبصرة المستقبل فقط ويسعى جاهدا لمعالجة الاختلالات والمشاكل التي عرتها أزمة كورونا.

خطاب ينتصر للفئات الاجتماعية الهشة التي تشكل قاعدة الهرم الاجتماعي ببلادنا ويسعى لبناء مغرب ما بعد كورونا على ثلاث مستويات رئيسة وهامة شكلت الأولوية بالنسبة لعموم المواطنين فترجمها الملك سريعا وتفاعل معها بحزمة إجراءات وقرارات محدودة الاجال وسريعة التنفيذ على المستوى القريب :

 

اجتماعيا من خلال المشروع الكبير لتعميم التغطية الاجتماعية لجميع المغاربة والذي سيحدث ثورة حقيقية ويمنح للملايين إحساسا بالأمن الاجتماعي والاستقرار النفسي، هذا المشروع الذي أعلن الملك عن مكوناته الأربعة ولخصها فيما يلي :

1_ تعميم التغطية الصحية الاجبارية لتشمل في حدود سنة 2022 أزيد من 22 مليون مستفيد إضافي من مصاريف التأمين الصحي بما فيها التعويض عن التطبيب والدواء…

بعد الاعلان عن فشل نظام المساعدة الطبية “راميد” والذي شاب تنزيله وتفعيل مقتضياته العديد من النواقص، وباعتبار الصحة والأمن الصحي ركيزة أساسية من ركائز بناء الدولة والعيش الكريم للمواطن.

2_ تعميم التعويضات العائلية لتصل لسبعة ملايين طفل في سن الدراسة، وثلاثة ملايين عائلة…

3_ توسيع الانخراط في نظام التعاقد ليشمل حوالي خمسة ملايين مغربي

4_ تعميم الاستفادة من التعويض عن فقدان الشغل…

هذه الإجراءات التي تضمنها الخطاب خطوة كبيرة وتاريخية لخلق مصالحة وطنية مع كل فئات المجتمع التي تعاني من البطالة وضعف الحماية الاجتماعية ومحاربة الهشاشة والفوارق الاجتماعية..

 

 

المستوى الثاني اقتصادي عبر اعتماد خطة وطنية كبرى لإنعاش الاقتصاد الوطني بإحداث صندوق اختير له اسم “صندوق محمد السادس للاستثمار” تخول له الشخصية المعنوية، وترصد له 15 مليار درهم من ميزانية الدولة تخصص لدعم القطاعات الانتاجية وتمويل ومواكبة المشاريع الكبرى، وسيتم لهذا الغرض إحداث صناديق قطاعية تابعة له حسب المجالات ذات الأولوية من بينها القطاع الفلاحي الذي تحدث الملك عن تعبئة مليون هكتار من الأراضي الفلاحية لفائدة المستثمرين وذوي الحقوق بحجم استثمارات يقارب 38 مليار درهم على المدى المتوسط .

وهو ما من شأنه تقوية النسيج المقاولتي ببللادنا ودعم الاستثمار وخلق المزيد من مناصب الشغل التي فقدت خلال أزمة كورونا.

 

أما المستوى الثالث والأخير فهو إداري من خلال حث الملك الحكومة والمؤسسات التابعة للدولة على اعتماد مبادئ الحكامة الجيدة وإصلاح مؤسسات القطاع العام بغية تحفيز وتشجيع الكفاءات الوطنية من أجل ولوج الوظيفة العمومية وتجويد خدماتها مستقبلا.

 

ليؤكد في الأخير جلالته وكما في السابق على دور الحكومة كهيئة تنفيذية في التنزيل السليم واقتراح الاليات الملائمة والمناسبة بالنظر للموارد والمؤهلات البشرية والمادية لتفعيل هاته الاستراتيجية لبناء مغرب مابعد الجائحة.

 

 

الخطاب إذن خارطة طريق تحدد أولويات العمل في المرحلة المقبلة أمام كل المتدخلين لبذل جهد أكبر ومعالجة الاختلالات التي شخصتها وعرتها جائحة كورونا وكشفت النواقص والعيوب داخل مجتمعنا.

 

أحمد متراق: كاتب وباحث في الشأن السياسي