رغم الروابط التاريخية، الدينية، الثقافية،  بل العرقية والإثنية التي تجمع البلدين الجارين المغرب والجزائر ، إلا ان حالة الإحتراب ومنطق الصراع ترجع إلى خلافات نشبت بينهما  إبان مرحلة مفاوضات الاستقلال التي خاضاها بشكل منفصل مع المستعمر الفرنسي،  عمق من حالة التباعد بينهما التناقض الجذري بين شكل النظامين  السياسين (الجزائر كنظام جمهوري اختار نظام الحزب الواحد فيما المملكة المغربية تبنت التعددية الحزبية)، واختياراتهم الأيديولوجية والسياسية واصطفافاتهم المختلفة إبان الحرب الباردة (الجزائر كدولة اشتراكية مع المعسكر الشرقي، المغرب اختار النظام الليبرالي مع المعسكر الغربي) رغم عضويتهما فيما كان يعرف بمنظمة دول عدم الانحياز، وقد عرف التوتر بينهما مداه بعيد استقلال الجزائر باندلاع حرب الحدود بينهما سنة 1963  الشهيرة  باسم حرب الرمال.

وقد عرفت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين حالات مد وجزر خصوصًا مع بروز نزاع الصحراء منتصف سبيعنات القرن الماضي الذي عمّق حدّة الخلاف بينهما، حيث اعتبرت الجزائر التواجد المغربي بهذا الإقليم خرقا لمبدأ تقرير المصير، واحتضنت أراضيها مخيمات اللاجئين الصحراويين ودعمت جبهة البوليساريو العنوان السياسي لهذه الحركة، فيما اعتبر المغرب الموقف الجزائري معاديا للوحدة الترابية والوطنية المغربية.

على إثر ذلك دخلت هاته العلاقات فترة صراع علني ومواجهة مسلحة مستترة،   ولم تعرف نوع من  الانفراج إلا في نهاية  الثمانينيات 1989 مع إعلان اتحاد المغرب العربي بمراكش، إبان حكم الراحلين الرئيس الشاذلي بن جديد والملك الحسن الثاني رفقة العقيد الليبي معمر القذافي ومعاوية ولد الطايع الرئيس الموريتاني وزين العابدين بنعلي الرئيس التونسي الأسبق؛ بحيث  فتحت الحدود البرية بين المغرب والجزائر، مما أسهم في انتعاشة على كل المستويات (الرياضية، الثقافية؛ السياحية، الاقتصادية…)؛ لكن الملاحظ ان  هذا الانفراج الحذر بينهما لم يكن بشكل ثنائي ومباشر ومستقل  بين الدولتين الجارتين، بل كان تحت غطاء اتحاد المغرب العربي المعلن آنذاك.

لكن تفجير فندق شهير بمراكش 1994 شكل انعطافة سلبية على إيقاع العلاقات الدبلوماسية الهشّة بين البلدين، حيث فرضت السلطات المغربية تأشيرة الدخول على المواطنين الجزائريين لترابها، بعد اتهامها المخابرات الجزائرية بالتورط في هذه الواقعة،  ردّت على ذلك السلطات الجزائرية ـ التي كانت تعيش ما يعرف بالعشارية السوداء ـ باغلاق  الحدود البرية بين البلدين.

ومنذ ذلك الحين إلى الآن، أي بعد مرور  25 سنة، لازال ذلك المعبر الحدودي بين الدولتين المسمى “زوج بغال” مغلقا في تناقض تام مع الجغرافية السياسية والمصالح الحيوية للبلدين، وهنا استحضر نماذج حدودية تعيش حالة توتر عسكري وسياسي أشد، ومع ذلك حافظت هذه البلدان على حدودها ومنافذها ومعابرها البحرية مفتوحة، وعلى سبيل المثال لا الحصر:  الهند وباكستان، الصين وطايوان، ايران والإمارات بل حتى كوبا والولايات المتحدة الأمريكية… وعيا من هؤلاء الفرقاء السياسيين بأهمية الفرص الذهبية التي ستضيع اجتماعيًا وثقافيًا وإنسانيًا … وإدراكًا منهم بالتكلفة والفاتورة الاقتصادية الهائلة التي ستهدر في حالة إغلاق كل جسور التواصل والتعايش، رغم أن الاختلاف المغربي الجزائري ليس بحدة هذه النماذج.

لكن يبقى نزاع الصحراء هو المخيم بظلاله على العلاقات بين البلدين، إذ فشل البلدان في إحداث اختراق، والإتفاق على تحييد هذا النزاع عن رزنامة القضايا الخلافية العالقة بينهما، وترك حل اختصاصه حصريا  للأمم المتحدة، بالموازاة مع ذلك القيام بفتح حوار استراتيجي حول آفاق العلاقة والتعاون وحسن الجوار بينهما، كون هذا  الصراع استنزف الكثير من الطاقات الدبلوماسية والسياسية،  والمقدرات المادية للقطرين الجارين على مدى 45 سنة، بل عرف فصلا آخر،  من خلال حرب  المواقع والأقطاب والإصطفافات في أروقة الاتحاد الإفريقي  بعد عودة المغرب لهذه الهيئة القارية بداية  سنة 2017 ؛  ومن المنتظر أن يعرف هذا التجاذب تفاعلًا آخر بعد فتح بعض البعثات الدبلوماسية الأفريقية مقرات لها بمدينة العيون والداخلة كبرى حواضر الصحراء رغم أن بعض هذه البعثات رمزي.

في ظل هذه الظروف لازالت بوادر الحل والانفراج في العلاقة بين البلدين “الشقيقين” بعيدة،  رغم التغيير الذي عرفه شكل رأس هرم السلطة السياسية بالجزائر،  بانتخاب السيد عبد المجيد تبون في انتخابات  رئاسية  ـ أثارت الكثير من الجدل في الداخل الجزائري ـ ، إذ فرضتها الاحتجاجات الشعبية  ضد ترشيح الرئيس بوتفليقة لعهدة خامسة؛ وباستقراء العملية السياسية بالجزائر بعد هذا الحراك الشعبي الذي قارب السنة، بحيث بدأ منذ فبراير المنصرم  ولازال مستمرا بإيقاع ومواعيد أسبوعية مضبوطة للاحتجاج، وأيضا من خلال قراءة  الخطاب السياسي للسيد تبون أثناء الحملة الانتخابية  وبعد تنصيبه رئيسا،  لا يلاحظ وجود شيء جديد عن الأدبيات الجزائرية  المعتادة، المتّسمة بالاشتراطات المسبقة  والمتمثلة بضرورة الاعتذار الرسمي للمملكة المغربية عن  قرارها  فرض التأشيرة على المواطنين الجزائريين، مما يؤكد  أن هذا  التغير الأخير على رأس هرم السلطة  السياسية بالجزائر كان في إطار الاستمرارية  على الأقل على مستوى العلاقة مع المغرب، رغم وفاة مهندس هذا التغيير/الانتقال الجنرال  أحمد  كايد صالح وزير الدفاع ورئيس الأركان، الرجل القوي بالنظام السياسي الجزائري مؤخرا ، مع التنويه أن  الجزائر بدأت مشاورات بشأن الإصلاحات الدستورية على ضوء التفاعلات السياسية الأخيرة.

 

في مقابل ذلك خطابات  العاهل المغربي بما تعنيه من قوة ورمزية في الحقل السياسي المغربي كتعبير عن الاختيارات الاستراتيجية الكبرى للدولة، والتي دعا من خلالها  المغرب لبناء علاقة جوار مبنية على تعاقدات جديدة تمليها الظروف الدولية المتسارعة والمصالح المشتركة للبلدين في مسار متواز و مستقل عن حل قضية الصحراء كقضية معروضة للتفاوض والحل تحت الإشراف والرعاية الأممية، إلا أن هذه الخطب  والمناشدات الرسمية لم تكن مسنودة بما يكفي من المبادرات الحكومية والآليات العملية كما أنها لم تجد التجاوب المطلوب من الطرف الجزائري.

في غياب مبادرات ووساطات إقليمية أو مساعي حميدة عربية لتقريب وجهات النظر بين القيادات السياسية العليا في الدولتين،  وانعدام علاقات تجارية واقتصادية مباشرة بينهما، أضف الى ذلك انحسار النخب الجامعية، الحزبية، الثقافية، الفكرية والإعلامية في العدوتين وتبنيها في الأغلب الخطابات الرسمية للدولتين وتماهيها معها في ما يشبه الدعاية السياسية لطروحات نظمها السياسية، دون تقديم نقد للوضع القائم أو طرح بدائل وممكنات حل، زد على ذلك فشل المجتمع المدني والقوى المجتمعية الحية في التشبيك والتحالف بينها، وعجزها عن أن تشكل جماعات ضغط في البلدين، وعدم استثمارها لآليات الحديثة مثل وسائل التواصل الاجتماعي، لخلق حالة رأي عام مؤثر يفضي لفتح نقاش عام شعبي تعبوي، لدفع الدولتين لتنازلات وتوافقات تدفع في اتجاه حلحلة الوضع؛  في غياب كل ذلك سيبقى الوضع الراهن بنفس الجمود والجفاء، رغم أن البلدين محكومين بواقع الجيرة الأبدية وبالتحديات التي تفرضها الجغرافيا السياسية للدولتين كالإرهاب والجريمة العابرة للحدود والهجرة السرية.. والأخطر من ذلك مآلات الحرب في ليبيا التي ستدخل فصولا أخرى بعد التدخل العسكري المباشر  لمجموعة من القوى الاقليمية  في هذا الصراع، بما يهدد بشكل مباشر أمن واستقرار المجال الحيوي للبلدين؛ دون أن ننسى مجموعة من الرهانات  والفرص الضائعة للأجيال الحالية والقادمة في الحق في التنمية والاستقرار والعيش المشترك…